أيّها الكاتب...
ثقافة, حسن داوود, سمر يزبك, أمل الفاران, روائي , علي منصور, مركز المشاعر الإنسانية, كاتبة, شوقي بزيع
21 يوليو 2009للكتابة طقوسها وللإبداع وقته وللأفكار دوافعها... ولكلّ مبدع زمنه الذي ينتظره مع شروق كلّ شمس وغروبها. يبقى هناك اعتقاد سائد يسكن مخيلتنا عن أنّ صورة الروائي والشاعر والكاتب عموماً لا تكتمل إلاّ في الليل الذي يمنحه صفاء الذهن والسكون والتأمّل... ولكن ما مدى صحّة هذا الإعتقاد؟ ومتى يكون الكاتب كائناً نهارياً أو ليلياً؟
أمل الفاران (روائية سعودية):أنا كائنة نهارية من قبل صياح الديك
قالت لي صديقة عزيزة مرة: أنت عصفورة، وأنا بومة متى نلتقي؟ كانت تعرف أن نشاطي كلّه مُرتهن بالشمس، أشرق مع سناها، وأكتب وأعمل، فإذا الليل أضناني سكنت خواطري وخفت نشاطي كله.
ففي سنوات صباي الأولى كانت الإجازات الطويلة مشكلة لأهلي، فأنا أستيقظ قبل ديك أمي الوحيد وأتفنن في إيقاظ البيت كله. إذاً أنا كائن نهاري بامتياز، أكتب في الصباح رغم أنني أعمل أيضاً، لذا كانت قصصي القصيرة مختومة بخاتم الخميس الباكر. ومعظم قصصي الأولى كانت تحتوي على بعض العبارات التي تدلّ على العلاقة القوية التي تجمعني بالنهار بحيث تجدين: «استيقظت في الصباح الباكر» أو «استيقظت باكراً»... فهي سمتي الشخصية وكنت أسم بها الشخصيات التي أكتبها.
وهنا سأروي لك حكاية عن روايتي الثانية «كائنات من طرب». استيقظت صباح خميس جميل، ووجدت رجلاً وامرأته يتجادلان بعنف في رأسي، كانت سرعتهما في الحديث أكبر من أن أجاريها في التسجيل على الكمبيوتر فبدأت أكتبهما في دفتر قديم. حسبتها قصة نموذجية جاءت كاملة لكني بعد اثنتي عشرة صفحة أغلقت دفتري برعب، عرفت أني أكتب رواية وأن الغد قادم/ العمل قادم، وقد تفلت مني إن جزأتها من خميس لخميس، ولن أستطيع الكتابة في البيت/ في الليل، صباح السبت كنت أقدم إجازة استثنائية من العمل وأتفرغ للكتابة. لذا أستطيع أن أقول بثقة أنا كائن نهاري جداً.
حسن داوود (روائي لبناني): لو وُلدت في زمن آخر ومكان آخر لكان الليل ملاذي الوحيد
لا أعرف إن كان الوقت الذي اعتدت الكتابة فيه هو آخر الليل أم بداية الفجر، فأنا أستيقظ في الثالثة صباحاً وأبدأ عملية الكتابة إلى جانب احتساء فنجان القهوة، رغم أنني في سنوات أخرى اعتدت الذهاب إلى مقهى «الروضة» البحري في ساعات الصباح الباكر وأجلس داخل الغرفة الزجاجية الباردة، ويكون المقهى حينها شبه خالٍ من روّاده. ولا أنسى مشهد البحر الذي كان يظهر لي من جهات كثيرة.
ولكن في الوقت الراهن أجدني حائراً في الوقت عند التحضير لكلّ عمل جديد، فأستيقظ أحياناً عند الساعة السادسة صباحاً وأروح أتردّد بين أن أسمع الأخبار من الراديو أو أن أشاهدها على التلفاز أو من الإنترنت، ومن ثمّ أشرع في كتابة أشياء لا أستكملها.
أمّا بالنسبة إلى الكتابة الصحافية، فأؤجلّها غالباً إلى اللحظة الأخيرة. واليوم أرى نفسي مضطرباً لأنني أحضّر لرواية جديدة وفي الوقت نفسه أشعر بالكسل، ولكن عندما أتأمّل حالي من الزوايا كلّها أجد لكسلي مبرّراً وهو أنّه لم تنقض بعد أشهر قليلة على إصدار روايتي الأخيرة. ذلك شيء يُشبه الجرثومة في الرأس أن يشعر واحدنا بأنّه لا يستحقّ وقتاً يُخصّص لراحته وكسله.
بالعودة إلى زمن الكتابة، كثيرون من الكتّاب بل أكثرهم هم أبناء ليل. أمّا أنا فلا أُقيم اعتباراً كبيراً لهذه القسمة، إذ هي عادة نبدأها وتستمرّ فينا. ربّما سنوات الحرب القاسية التي خبرناها في لبنان هي التي جعلتني أرقد مبكراً وأعتاد ذلك، بحيث كان القصف وانقطاع التيار الكهربائي وتعب النهار تدفعنا للنوم باكراً.
لذا أقول إنني لو وُلدت في زمن آخر ومكان آخر لكان الليل ملاذي. لكن ينبغي أن أضيف في النهاية أنّ الفجر أيضاً جميل ومتغيّر ولا شيء أجمل من أن يُشاهَد الضوء في ولادته من وراء زجاج النافذة المُقفل. ورغم أنّ ساعات الليل متشابهة ومتكرّرة، فإنّها جميلة وتذكرني بجملة قالتها لي صديقة ساهرة: «إنني أشعر بأن الزمن صار كلّه لي الساعة الثانية عشرة، حين عليّ أن أكتب. أنا، وحدي...».
سمر يزبك (كاتبة سورية): في تزاوج الليل والنهار مشهد زمني يستفزّني على الكتابة
سيكون من الصعب علي الكتابة في أي نهار إن لم استيقظ قبل طلوع الفجر، وتحديداً في الوقت الذي تكون السماء فيه بنفسجية تنحل في الأزرق. ذلك الوقت المقدس بالنسبة إلي هو الزمن الثابت الذي أحرك فيه رؤيتي للزمن المهدور في حيواتنا، وهو الوقت الذي كتبت فيه أغلب رواياتي وقصصي.
إنّه وقت مختلف عن الكتابة الصحافية المرهونة بضرورة المادة الصحافية. الرواية لها وقتها المقدس وطقوسها الخاصة، من الستائر المفتوحة التي تغلق بعد أن تبدأ الشمس بالتسلل، وبعد أن اسمع حركة في العالم الخارجي، إلى القهوة الحلوة التي لاتفارق سطح المكتب حتى ظهر اليوم.
في تلك اللحظات الصباحية التي أشعر فيها بتداخل عارم مع تفتح الحياة من حولي، يكبر فيها عقلي بالخيال وأجنحته المجنونة التي تأبى الظهور في أي وقت أخر، تماما مثل ساحة نظيفة إلا من حدود السماء من حولها.
وكلّ ما ينقصها للبدء بالتشكل اللعب فيها بنظافة وتشييد معالمها العمرانية والبشرية، وحتى رسم أدق ما سيصير في بيوتها وعماراتها السرية من حركات وهمسات وألوان وتشكّل أرواح وموتها.
شوقي بزيع (شاعر لبناني): أكتب في الضوء وعلى إيقاع النرجيلة
لكلّ شاعر طقوسه وسلوكياته التي تًميّزه عن سواه بحيث يُصبح في الكثير من الأحيان أسير هذه الطقوس التي تُصبح جزءاً لا يتجزأ من عملية الكتابة نفسها.
فأنا مثلاً لا أكتفي بمزاولة الكتابة في مقهى أرتاده منذ عشرات السنين، بل أختار لنفسي الطاولة ذاتها والزاوية ذاتها أيضاً.
إلى جانب ذلك أهتم لدرجة البياض في الورقة التي أكتب عليها ولا أستخدم سوى الحبر الأسود... فضلاً عن أنني لا أكتب إلاّ على إيقاع النرجيلة الذي يُلهمني إلى حدّ بعيد، بحيث يتصّل ضباب الرؤى والأخيلة بالدخان الضبابي المنبعث من النرجيلة، مع الإشارة إلى أنني لا أدخّن إلاّ مع الشعر.
أمّا بالنسبة إلى المسألة الزمنية، فأنا كائن نهاري ويتراوح زمن الكتابة بالنسبة إليّ بين الحادية عشر صباحاً والسادسة مساءً. وأخصّص الوقت الذي يأتي بعد ذلك لمزاولة أعمالي الأخرى أو هواياتي كالسباحة مثلاً أو مشاهدة التلفاز والقراءة طبعاً.
ولأنّ الكتابة لا تنتظم بزمن معيّن، فأنا من خلال كتابة الشعر أنقطع انقطاعاً شبه تام عن العالم الخارجي والمواعيد واللقاءات وأٌقفل الهاتف لأدخل في مملكتي الخاصة وعالمي المغلق على كلّ شيء إلاّ على القصيدة. وأحياناً أصمت عن الشعر لسنتين أو أكثر ولكن عندما أقف على مشارف اليأس أجد الأبيات والأفكار والمعاني تنهمر شلالات فوق رأسي إلى حدّ لا أستطيع اللحاق بها، وأبقى لأشهر عدّة ومتواصلة في حالة من التنسّك والتبتّل.
وإذا كان الكثير من الشعراء ليليين باعتبار أنّ المعنى الشعري ليلي، كما يُعبّر صلاح ستيتيّة في كتابه «ليل المعنى»، فإنّه ليس من تناقض في الأمر لأني ما إن أبدأ في الكتابة حتى تُسدل الستائر من حولي وتُطفأ الأضواء في شكل تام، ولا يُضاء حينئذٍ إلاّ الخيوط المتصلّة بالشعر والصور والخيلة.
علي منصور (شاعر مصري): الليل قصيدة... أمّا النهار فهو الرواية
أظن أن معظم الكتاب والشعراء والفنانين هم كائنات ليلية ينامون أكثر النهار ويسهرون أغلب الليل. وأعرف أصدقاء شعراء لا يستيقظون قبل الظهيرة وعادة ما ينامون عند الفجر، وبعضهم يتصل بي في منتصف الليل ويتعجب حين يجدني نائماً.
كثيرون يقولون إنّ أفضل الأوقات لمهاتفتهم تكون بعد الثانية عشرة مساءً. أنا كائن نهاري ولا أستطيع أن أصبح كائناً ليلياً نظراً لانتظامي في عملي المهني الذي يتطلب منّي الصحو المبكر، ومع هذا فأنا أعشق الليل والسكون وأراه أنسب الأوقات للتأمل وصفاء الذهن. الليل جميل للقراءة وللكتابة وللخلوة... فالليل شيخ حكيم والنهار فتى أهوج. ولكوني كائناً نهارياً فقد أصبحت الكتابة عندي شبه إختلاس في زحمة الإنشغال وغمرة العمل، وما إن تومض لي بارقة النص حتى أقبض على شرارتها ولا أتركها إلاّ بعد أن تصبح نصّاً شعرياً، وغالباً ما يحدث ذلك في الليل، ذاك لأنّ الليل قصيدة، أمّا النهار فهو الرواية.