نجاح طاهر في «الهَجْر»
كتبت الفنانة اللبنانية نجاح طاهر كتابها «الهَجْر» وهي ترسمه. «الهَجْر» المؤلف من «خلطة» فريدة من سرد ورسوم وصور ووثائق، إجتمع في عمل واحد مع «متاهة الإسكافي» الذي يحكي بالكلمات فقط سيرة الشاعر المصري عبد المنعم رمضان. تجمع الكتابين في كتاب واحد لعبة إخراجية ذكية وأسرار الذات الإنسانية. «استمتعتُ بلعبة الإخراج» قالت نجاح، «ولأن السيرة تسرد تجارب فردية، جميل الجمع بين سيرتين في كتاب واحد كي نقول إن هذه التجارب ليست فردية في الوقت نفسه. أراد عبد المنعم رمضان كتابة سيرته منذ مدة بعيدة، وبدأ كتابتها. وكانت الفكرة أن أركّب سيرتي من خلال الصور والرسوم فقط. لكن عندما بدأت العمل ومضيت في المشروع تطوّرت الفكرة، وأصبحت أكثر تشويقاً، دخلت مزاجي».
هو كتاب سيرة كما جاء على الغلاف. وكي تكتب عن نفسها، كتبت نجاح طاهر عن والد جدتها وعن جدتها، وكتبت عن تاريخ جبل عامل. هي سيرة عميقة غارقة في تاريخ هو جزء منها وهي جزء منه. ونجاح قرّبت التاريخ منا، قدّمته إلينا في كلمات بسيطة سلسة وصور وألوان. حملته إلينا أيضاً متعة حكي العمة أميرة، التي أهدت الفنانة إليها الكتاب، وقصص تحتمل كلّ منها أن تتحوّل رواية. التاريخ هنا قصص سمعتها الطفلة. وليست قصص كل الأطفال تاريخاً.
أرادت نجاح أن تكتب عما أثر في مخيّلتها الملوّنة حيث نبتت رسومها بأشكالها، العقرب والوردة النجمة وحصان البحر والعصفور وحبة الكرز.
بدأت بوالد جدتها (لأمها) كامل الأسعد، «جده الأكبر محمد بن هزاع الوائلي القحطاني من رؤساء قبائل عنزة، هو أول من جاء بلاد البشارة (جبل عامل) والأمير عليها يومئذ بشارة بن مقبل القحطاني... ساق محمد بن هزاع حرباً على القحطاني، قامت على قدم وساق وانتهت بفوز محمد بن هزاع، فاستولى على البلاد وحكمها وتزوج ابنة بشارة وبقي أميراً عليها طوال مدة حياته. وبعد وفاته تلقّاها أبناؤه وأبناء أبنائه...»
«الكل يكتب سيرته الآن، كأن ثمة في الدنيا ما يقول لهم اكتبوا سيركم. لم أفكر من قبل في أن أكتب سيرتي، وما كتبته ليس سيرة كاملة. أتذكر أنني منذ زمن طويل قرأت سيرة جان بول سارتر «الكلمات»، وبقيت لي منها مشاهد عالقة في رأسي وأحبها، منها على سبيل المثال حين كان يستمع إلى كلمة لها نغم معين، فيختبئ تحت الطاولة ويردّد هذه الكلمة. حياتي عادية وليس فيها ما يخرج عن المألوف، لكنني أردت أن أقول إن المناخ الذي عشت فيه، مناخ بيت جدي شكلّني كفنانة. فالعمل الفني الذي أقدمه يحكي عني وأسلوبه خاص بي ولم يقدّم مثله أحد. وقد حوربت بسبب أعمالي الفنية، وما فُهمت أو انضممت إلى شلّة أو مجموعة.
ولأنني تربيت في هذا البيت وجدت نفسي فنانة صادقة لا أكذب ولا أقلّد أحداً، لأنني عُلّمت أن أحترم كبريائي وألا أقلّد، فأنا مطلعة على تطوّر المدارس الفنية في الغرب وعلى ما يقدّم وما يروج وأستطيع أن أقلّد لأنني أمتلك الحرفة، لكنني لا أقبل بالتقليد وأحترم عملي بسبب تربيتي في هذا المناخ. كما أن مجموعة القيم التي حملتها من هذا البيت ما زالت معي وما زالت "تلبّكني".
وعندما واجهت العالم اكتشفت أن هناك قيماً سائدة مختلفة تماماً عن القيم التي شكلتني، والتي لا أستطيع أن أتخلّى عنها، كما لا يمكن أن أغيّر أناي، يجب أن أقبل بها وأحبها قبل أن أحاول تطويرها.
أردت أن أعود إلى تلك اللحظات لأعلّقها وأوقفها في صورة أو رسم أو في كلمات، وأن أحكي عن نمط حيوات أهل ذلك الزمن وعن العلاقات والقيم، عن هؤلاء الذين ماتوا كلّهم، ماتوا جسدياً ومات أمثالهم، انتهوا».
ألهذا هو كتاب «الهَجْر»؟
بعد انعقاد مؤتمر الحجير الذي دعا إليه كامل الأسعد وحضره الثائران صادق الحمزة وأدهم خنجر، قرر المؤتمرون رفض الوصاية الفرنسية وطالبوا بالاستقلال التام والانضمام إلى الوحدة السورية على أن يكون جبل عامل مستقلاً ضمن الوحدة، والمناداة بالملك فيصل ملكاً على سوريا. أزعج المؤتمر الفرنسيين الذين افتعلوا الفوضى في جبل عامل بإطلاق الشائعات وافتعال الحوادث الأمنية. «ذهب كامل إلى الجموع محاولاً التهدئة، ثم اجتمع بالكولونيل نيجر قائد القوات الفرنسية في جبل عامل. استعمل نيجر سياسة الترهيب والترغيب وحاول إقناع كامل بالذهاب إلى بيروت ليصبح مستشاراً لغورو.
«ملك في عتشيت» قال كامل و«لا وزير في فرنسا». ثم امتطى صهوة جواده وذهب مع حاشيته إلى دمشق.»
بين سايكس بيكو ووعد بلفور والحرب العالمية الأولى والثورة العربية وانسحاب آخر جندي تركي من دمشق، تجري الأحداث العائلية أو الشخصية. نقرأ في الفصل الأول عن أحداث تاريخية حفظناها، وعن أحداث جرت في جبل عامل وقرأناها في عدد قليل من الكتب.
«تاريخي الشخصي مرتبط بالتاريخ العام مع قليل من اللعب. لا أعرف كيف رتبت الأحداث والإشارات، وكيف أخذت هذه أماكنها وتداخلت. ولست مؤرخة لكنني أقول إنتبهوا إلى هذه الحقائق التاريخية. بحثت عن الوثائق الواردة في الكتاب وقرأت ورسمت خلال ثلاثة أعوام ونصف العام. كما تدعم المعلومات التاريخية تجارب شخصية لأشخاص من أهلي وبيتي، ربما لم أعرفهم لكنني أعرف قصصهم وواثقة بصحتها».
هل حرّكتك مقاصد تاريخية؟ «لم تحركني مقاصد تاريخية، لكنني أحسست نفسي مدفوعة إلى أن أوضح بعض الأمور. أدهم خنجر لم يكن مجرماً كما اعتبره البعض وصوّره على أنه من قطاع الطرق. أدهم خنجر قاوم الفرنسيين وأعدم وكان في السابعة والعشرين. كما هناك كتب عن مؤتمر الحجير لم يأت كتابها على ذكر كامل الأسعد (الذي دعا إلى المؤتمر)».
في بلدة الطيبة في جبل عامل حيث ولد كامل الأسعد الجد، ولدت أيضاً ابنته فاطمة الأسعد جدة الفنانة وبطلة كتابها.
«في عمرة الطيبة مريم العبد الله لم تنجب إلا بنتيها، جدتي فاطمة وأختها خديجة، وكامل ضاق ذرعاً بهن وبأصواتهن... في حادثة يذكرها الجميع خرجت ضحكة مكتومة، ضحكة واحدة بالغلط خرجت يوماً من غرفة البنات، وسمعت في قاعة الإستقبال حيث كان كامل يستقبل عدداً من الرجال. سورة غضب كامل كانت من الشدة بحيث إنه بعدها ولشهور غرقت العمرة في الطيبة في صمت خانق.»
تقفز الطفلة التي تحكي التاريخ وقصص العائلة المشوقة من صفحة إلى صفحة. تغيّر فساتينها ولا تتغير عيناها، تقدّم مشهداً مسرحياً، فتردّد حين تجد صورة الجد ملقاة على الأرض وقد تناثر حولها الزجاج: «أستغفر الله العظيم، أستغفر الله العظيم»...
«ربما ما زلت طفلة. يبقى الفنانون أطفالاً. أحكي فعلاً ما التقطته ذاكرة طفلة في الرابعة أو الخامسة. ولم أكذب أو أحاول أن أكذب، هناك تركيب للأحداث مع الصور والرسوم، لكن الكذب غير موجود. لغتي بسيطة لأنني لم أود أن أتفلسف بل قصدت أن أبسّط كلماتي. أردت أن أتكلّم بالرسم، فأنا لغتي الرسم، ولغتي التلميح، لذا أدخلت الوثائق والصور. ولم أقحم الوثيقة كشكل، فالوثيقة تكلّمت وكانت جزءاً من الكلام، كما كانت الأبيات (القريض) والقصص مثل البنت والغول التي ترمز إلى الإستعمار وما صنعه المستعمِر بالمستعمَر».
قصة البنت والغول
«تجلس أمي على الأريكة. نتحلّق حولها وعيوننا شاخصة بحماسة لسماع نهاية حكاية الغول والبنت المخطوفة. فالغول كان قد اختطف البنت الصغيرة وسجنها في منزله. يأتي الغول كل مساء, وعلى هذه الكتف بقرة وعلى هذه الكتف شجرة والبنت الصغيرة فرحة بهذا القوت الكثير يأتيها كل يوم.»
الأحمر جميل على أظفار البنت الجميلة المشنوقة بشريطة حمراء. لا يفسّر الرسم القصة بل يمنحها العمق والشعرية، فتصبح قصيدة. والقصص كثيرة في كتاب نجاح طاهر، قصص تبرق فيها دلائل إلى تركيبات النفس الإنسانية، ولحظات لا تتكرر.
والرسوم ترفع النص إلى أعلى، تجعله لوحة ومشهداً مسرحياً، وتجمع فيه فنوناً عديدة.. أياد بأقفال، دم على خنجر، وألعاب إخراجية ذكية جمعت بين الرسم والصورة والكلمة.
في الفصل الثاني تطغى الأحداث الشخصية والعائلية، نفهم كيف تركبت اللعبة ولمَ تضمّن الفصل الأول رؤوس الأقلام التاريخية المدعمة بوثائق. هنا تظهر في النص البسيط غير الثرثار لمعات روائية.
«الفن هو أن تعطي مفاتيح وتتركي الناس يفكرون. والقارئ فنان آخر، يجب أن أتركه يقرأ، فأنا ضد أن يعطى القارئ مسلّمات وأحكاماً. والطفلة في الكتاب ليست واثقة بما حولها، وما تقوم به. لا يطلق الأطفال الأحكام النهائية والصارمة كما يفعل الكبار. الطفل يتساءل كما يفعل الفنان من خلال فنه، والعمل الذي يقدّم الأجوبة ليس فناً.»
بالكلمات رسمت نجاح طاهر منظار بنت الباشا (زوجة كامل الأسعد الثانية) النحاسي وأصابعها، وفستان عرس جدتها الأسود, وبالألوان غيمة تتحول طيراً وشعر فتاة عيناها حبتا كرز. رسمت ظلال الحكايات التي بقيت من طفولتها وظلال الأشكال التي لم ترها بل سمعتها، أشكال الكلمات المسموعة، كلمات تتغلغل في المخيّلة حيث تصير ألواناً.
«القصص معصورة انتقيتُها من بين مليون قصة. قصدت أن أحكي قصة مثل قصة عمتي التي أرادت الحوري زوجاً لها وكانت تتفرّج على أفلام إباحية، هي واحدة من القصص التي حاكت مخيّلتي ورسومي. هناك قصص حكتها لي عمتي أميرة لاحقاً، وخرجت مني الخلاصة.»
«بعد أن استقام الأمر لجدتي وأضحت آراؤها وقراراتها هي التي تسيّر أمور عمرة الطيبة» بدأ ظهور الصالحة، التي تقول العمة إنها تشبه جدة الفنانة تماماً، «طويلة القامة نحيلة، ترتدي الأبيض كمن يهمّ إلى الصلاة... رآها الرجال ورأتها النساء، والكلّ أجمع على أنها تبدو كتوأم جدتي.»
«الصالحة هي جدتي لكنها تلبس الأبيض. طغى حضور جدتي إلى حد أنهم أصبحوا يرون مَن سمّوها الجنية الصالحة ويؤمنون بها. هنا غيّبتُ اللون عن صورة جدتي، حوّلتها إلى صورة بيضاء».
شارك
الأكثر قراءة
إطلالات المشاهير
تيا ديب ابنة نوال الزغبي تعتمد موضة الكروب توب...
إطلالات النجوم
أبرز فساتين سيدني سويني في عام 2025
إطلالات النجوم
آيس سبايس بإطلالة من الدانتيل الأبيض في عرض...
إطلالات النجوم
الفساتين القصيرة… التوقيع الأبرز في إطلالات مي عمر
إطلالات النجوم
كايلي جينر تتألق بفستانٍ من الريش مكشوف الظهر
المجلة الالكترونية
العدد 1091 | تشرين الثاني 2025
