black file

تحميل المجلة الاكترونية عدد 1091

بحث

'الحفيدة الأميركية' ضحية فوضى الإنتماء

'الحفيدة الأميركية' ضحية فوضى الإنتماء

كتاب الحفيدة الأميركية

الكاتبة إنعام كجه جي

الناشر: دار الجديد، ٢٠٠٨

 

حكاية التمزّق بين «الموطن الأصلي» و«الوطن الجديد»

«أُناس يُشجعّون ويُصفّقون ويزينّون التجربة... وأُناس يُديرون الوجوه ويبصقون ويحذرون من حياة الأرض التي شربنا دجلتها وفراتها»... كلا النوعان، على اختلافهما، هم ناسها... ناس تلك الفتاة التي تمزقّت بين الأزمنة والأمكنة وعانت فوضى الإنتماء... إلى أن تشتتت أفكارها وتناثرت روحها لتسكن أخيراً مدافن «آرلنغتن» في واشنطن حيث يُدفن الجنود الأميركيون الذي لاقوا حتفهم في العراق. لم يُخدش جسد «زينة»، الشخصية المحورية في الرواية، وإنما أُصيبت روحها وفاضت حين لم تجد لها مسكناً لا في أميركا ولا العراق...
«زينة» هي الجندية الأميركية التي، إبّان عودتها من مهمتها في العراق، عرّجت على مقبرة آرلنغنتن وآثرت النظر بصمت مؤلم إلى قبور الجنود الأميركيين، ما دفع بإحداهن لسؤالها عمّا إذا كانت قد فقدت أباً لها أو أخاً، فتجيبها زينة بهنام، الكلدانية الأميركية، أنّها فقدت نفسها... إجابة مُقتضبة وإنما لها دلائل أكبر وأخطر بكثير... «كيف تؤثّر الهجرة على نفوس المهاجرين؟ ما الذي يُمكن أن يُنتجه تعدّد الإنتماءات؟ هل يزيد الشخصية الإنسانية في مقامها العام غنىً أم أنّه يدفع بها نحو الضياع والشتات؟»...

«الحفيدة الأميركية»- الرواية الجديدة للكاتبة العراقية المقيمة في باريس إنعام كجه جي- تحاول في خطوة جليلة أن تُجيب عن هذه الأسئلة دون أن تتعمّد الإجابة، وذلك من خلال حكاية اختيرت من قلب الحدث، حكاية الشابة العراقية السمراء زينة بهنام التي هاجرت وأهلها من العراق في سنوات مراهقتها الأولى لتعيش في «ديترويت» وتأخذ الجنسية الأميركية بعد ذلك إلى أن تتعاقد مع الجيش الأميركي، ولا تعود إلى العراق (الذي تركت فيه جدتها وأخاها في الرضاعة وحبّها المكتوم) إلاّ من أجل مساعدة المحتلّين الذين تعمل معهم كمترجمة مقابل سبعة وتسعين ألف دولار. وقد مضت في تجربتها تلك وهي تُقنع نفسها بحجج الإعلام الأميركي المناصر للحرب: «إنني ذاهبة في مهمّة وطنية، جندية أتقدّم لمساعدة حكومتي وشعبي وجيشي وجيشنا الأميركي الذي سيعمل على إسقاط صدّام وتحرير شعب ذاق المُرّ»...
تبدأ الرواية، على خلاف تراتبية  ترسيمة السرد، من النهاية أي بعد عودة البطلة من «بغداد» حيث الأهل والأقارب والذكريات إلى «ديترويت» حيث العائلة والأصدقاء والمستقبل. فنجد أنفسنا منذ السطور الأولى مشدودين لذاك النقد القاسي الذي توجهه بطلة الرواية لنفسها حتى وكأنها تحمل مبضعاً تفكّك فيه ذاتها...

فتراها تصف نفسها بأنّها إمرأة «تحمل مقبرة بين الضلوع»، لا بل مجرّد «خرقة معصورة من خرق مسح البلاط»... رواية كجه جي، على رغم سلاستها تراها معقدّة، ليس لجهة بناء العمل أو الشخصيات وإنما في اختيار موضوع شائك ومعالجته بأسلوب أدبي فني درامي. كما ترصد عالماً عراقياً- أميركياً مركباً من خلال شخصية «زينة» التي تمثّل ذاك العالم المعقّد. بطلة الرواية مجندة مع الجيش الأميركي، أمّا أخوها في الرضاعة فهو مقاتل في جيش المهدي، وجدّتها هي العراقية المتأصلة والمخلصة لتاريخها وقيمها وأرضها وزوجها العقيد السابق في الجيش العراقي. وقد اختارت الكاتبة أن تصف هذا العالم المتشابك بلغة حيّة تُزاوج بين العربية والإنكيزية من خلال بعض المفردات الإنكليزية الدارجة مثل: «دايت، الشورت هاند، تشيز، بليس يو...»، وبعض العبارات المكتوبة في النص باللغة الإنكليزية مثل: No problem، Yes i do، Take care... الأمر الذي يزيد واقعية الرواية التي تتأرجح بين عالمين متباعدين ومختلفين على كلّ المستويات: «الولايات المتحدة والعراق».

«الحفيدة الأميركية»... عنوان يحتوي بحدّ ذاته تدليلاً ضمنياً يُشير إلى أنّ الرواية تدور حول موضوعين أساسيين... الأول نستدّل عليه من خلال اسم الجنس «الحفيدة» والثاني من خلال الصفة «الأميركية»... فذكر «الحفيدة» يحتّم استذكار «الجدّ» أو «الجدّة»، وهنا نلتمس مسألة الصراع القائم بين الأجيال والتي تعرضها الرواية من خلال شخصية الحفيدة زينة والجدّة «رحمة» التي طالما انتظرت عودة حفيدتها الغائبة إلى أن جاء اليوم الذي دخلت فيه «زنزن» (كما كانت تدللها جدتها) بغداد على الدبابة الأميركية مرتدية ملابس وبزّة جنود الإحتلال، الأمر الذي لم يستوعبه عقل الجدّة فتتوفّى إثر ذاك «المشهد- الكارثة».
أمّا الصفة المستخدمة في العنوان «الأميركية» أي تحديد الجنسية إلى هذا الحدّ من المباشرة يُراد به الإشارة إلى «الآخر» الذي لولا اختلافه لما جعل من الهوية كُنية تُستخدم للتمييز. فنتيقّن إذاً بمجرّد التدقيق في العنوان أنّ الرواية تتناول أيضاً مسألة الإنتماء والهويّة والتمزّق بين «الموطن الأصلي» و«الوطن الجديد». وأكثر ما يشدّ في الرواية تلك التغيرات الجذرية التي طرأت على شخصياتها فساقتهم من النقيض إلى النقيض. فبطلة الرواية تركت بلدها وأهلها من أجل إيجاد ظروف حياة أحسن في الخارج إلاّ أنها عادت إلى مسقط رأسها مشحونة بأفكار جديدة وثقافة مغايرة ووعي مختلف...


 أمّا أخوها في الرضاعة وحبّها المكتوم، فكان في مراهقته عاشقاً للموسيقى الغربية وتحديداً الجاز ثمّ تفرّغ  فيما بعد في صفوف جيش المهدي. وبالرغم من التوصيف الدقيق الذي تقدّمه الكاتبة عن شخصياتها إلاّ أنها لا تدخل في متاهة التعليق على القناعات الذاتية، كما أنها تختار خاتمة فارغة من «الكلاسيكية» بحيث لا تقدم في النهاية حلولاً يتوقعها القارئ ولا تحولاّت مركزية تجعل نهاية الرواية ميلودرامية. فبقيت الشخصيات في أفلاكها وظلّت أخيراً كما اختارت أن تكون...

المجلة الالكترونية

العدد 1091  |  تشرين الثاني 2025

المجلة الالكترونية العدد 1091