إبراهيم العريس

ثقافة, إبراهيم العريس, المخرج يوسف شاهين, سينما العربيّة, جائزة الشيخ زايد للكتاب

01 أكتوبر 2009

الكتاب: يوسف شاهين نظرة الطفل وقبضة المتمرد
الكاتب: إبراهيم العريس
الناشر: دار الشروق

يوسف شاهين... إسمٌ يُغري بالإبحار والمراجعة والكتابة. إنّه الأسطورة التي جعلت من المخرج السينمائي نجماً. وهو المبدع الذي ظلّ اسمه وإنتاجه السينمائي طوال ستين عاماً مثاراً للفضول حتى كتب عنه النقّاد العالميون والعرب في حياته ما لم يُكتب عن مُبدع عربي آخر في حياته ومماته. إنّه صاحب الإسم الذي وُضعت وستوضع في أعماله وسينماه المثيرة للجدل مئات الدراسات والمقالات والمراجع. ولكن يبقى لبعض الأقلام التي تتناول شاهين إنساناً وفكراً وإبداعاً بُعدها الخاص حين تكتب عنه، ومن بينها- إذا ما قُلنا أوّلها- قلم الناقد السينمائي والباحث في التاريخ الثقافي إبراهيم العريس. وهذا ليس لأنّه ناقد محترف وصاحب عين ثاقبة تخرق أفقية الصورة كي تُثقلها بالمعاني والدلالات وتصنع لها عوالم جديدة ومغايرة فحسب، وإنما لأنّه قبل ذلك عاشق يوسف شاهين وصديقه وعارفه عن كثب. والمتتبّع لسلسلة الكتب النقدية التي أصدرها إبرهيم العريس عن السينما العربية والعالمية والتي لم يتوان خلالها إلى «شاهين»، ما انفكّ ينتظر كتاباً خاصاً يختصر تحليل العريس التفصيلي للسينما الشاهينية. و شاءت الظروف أن يأتي هذا الكتاب حاملاً معه معنى خاصاً يتمثّل في تزامن صدوره والذكرى السنوية الأولى لرحيل المخرج الكبير.

«يوسف شاهين نظرة الطفل وقبضة المتمرّد»، يكاد يكون أفضل ما يمكن تقديمه عن سيرة مخرج شغل ب«سينماه» عقول الناس وأقلام النقاد. فهو لا يقدّم دراسة معينة لحقبة زمنية محدّدة في حياة شاهين، كما أنّه لا يُناقش فيلماً أو شخصية شاهينية بعينها ولا يقتفي منحى واحداً في عمل يوسف شاهين السينمائي، بل يُقدّم تحليلاً شاملاً قد يكون الأول من نوعه للتجربة الإبداعية الكاملة لمخرج عرف كيف ينطلق بموهبته وثقافته وذكائه من السينما المصرية نحو العالمية.

يُعلّق الكاتب على أفلام شاهين التي يضعها في ترتيب موضوعاتي كرونولوجي ويُبرز غزارة شاهين في التنوّع بين نوعيات سينمائية مختلفة: من الكوميديا الموسيقية إلى الميلودراما، ومن السيرة الذاتية إلى القضايا القومية والإنسانية. وتكمن أهميّة هذه الدراسة الجديّة والجديدة عن مسيرة يوسف شاهين الطويلة في أنها تُقدّم إلى كلّ محبّي السينما عامة وشاهين خاصة فرصة التوغّل في حقول هذا المخرج الشائكة والمعقدة.

ويبدو أنّ الكاتب أراد التوجّه في كتابه هذا إلى القارئ العادي قبل النخبوي ليكشف أمامه كوامن سينما شاهين الغامضة أحياناً بالنسبة إليه. لذا اختار العريس إلى جانب العمق في الشرح والتعليق والتحليل، لغةً مباشرة لا تخلو من الجاذبية و السلاسة.

ويُمكن لقارئ «يوسف شاهين: نظرة الطفل وقبضة المتمرّد» أن يتوقّف عند هذا العنوان الملتبس، ليكتشف بعد قراءة الكتاب أنّه يختصر الفكرة الجوهرية التي لم يغفل عنها الكاتب في أيّ فصل من فصول كتابه والتي تتجلّى في جدلية العلاقة بين يوسف شاهين الإنسان والمخرج. فمن اختار أن تكون السينما مرآة لنفسه، لم يكبت الطفل الذي في داخله بل أعطاه حريته الكاملة ليعبّر عن هواجسه وأحلامه وعُقده وتناقضاته على الشاشة. وربما يكون العنوان هو تكريس لهوية شاهين التي يمتزج فيها الإنسان- الطفل والسينمائي- المتمرّد.

وبعد التطرّق إلى سيرته الشخصية في «شاهين..المصري: نوع من السيرة»، ارتأى الكاتب إبراهيم العريس تقسيم حياة يوسف شاهين إلى مراحل سينمائية استهلّها بفصل «مشاكس منذ البداية»، وهي الصفة التي أطلقها العريس على «جو» الذي بدا منذ احترافه عشقه الأوّل (السينما) مخرجاً غير عادي. واعتبر أنّ يوسف شاهين بفيلمه الأوّل «بابا أمين» كان أوّل من أعلن عن ولادة نجم سينمائي جديد هو المخرج. 

وفي الفصل الثاني «اختلاط الأنواع»، يركّز الكاتب على المرحلة الثانية في مسيرة شاهين السينمائية والتي أعقبت قيام الثورة مباشرة دون أن يتخّذ شاهين موقفاً محدداً تجاهها. وفي فصل «قلب الكوميديا الموسيقية» يرصد الكاتب تجارب المخرج في السينما الكوميدية، ليطرح بعدها سؤالاً مهماً عن سبب إتجاه شاهين بعد نجاح أفلامه الإجتماعية الواقعية مثل «صراع في الوادي» و«صراع في المينا» نحو أفلام الكوميديا الموسيقية من إنتاج وبطولة فريد الأطرش». إنما يعود ليُجيب عنه لاحقاً بأنّ تأثّر شاهين الكبير بالمخرج والممثل والراقص «جين كيلي» دفعه لتقديم ما يُعرف بالكوميديا الموسيقية.

كما يؤكّد بعد أن يُحلّل فيلمي «ودّعت حبّك» و«إنت حبيبي» أنّ هذين الفيلمين لفريد الأطرش كانا بعيدين كلّ البعد عن السينما الشاهينية ولم يُحققا أي أهمية تُذكر. كما يصف الكاتب المرحلة الأكثر سوداوية في حياة شاهين السينمائية والشخصية ب«عالم الميلودراما الكئيب». ويدرس الكاتب في هذا الفصل أسوأ الأفلام التي قدّمها شاهين خلال هذه المرحلة وسبب ضعفها وتفككها والتي استمرّت ثلاث سنوات قدّم خلالها: «حب إلى الأبد» و«بين إيديك» و«نداء العشّاق» وغيرها من الأفلام التي لم تُضف إلى مسيرته شيئاً بل أربكتها. ومن ثمّ يأخذنا الكاتب في الفصل الخامس «عالم الإيديولوجيا والقضايا» إلى رصد علاقة شاهين وفكر ثورة 1952 التي قامت أثناء تحضيره لفيلميه الثاني والثالث «إبن النيل» و«المهرّج الكبير». وبعد سنتين بدأ يوسف شاهين بتقديم ثلاثية عن الصراع الطاحن بين السلطة الجائرة والشعب المقهور، مع التركيز على انتصار هذا الأخير في النهاية، وذلك من خلال «صراع في الوادي» و«شيطان الصحراء» و«صراع في المينا». وفي الفصلين السادس «سيمفونية الهزيمة» والسابع «داخل الذات المشاكسة» يتحدّث العريس عن تأثير هزيمة ال67 على المخرج، وعن المرحلة الجديدة التي بدأها بعد ذلك من خلال أفلام ضخمة وعميقة مثل «الأرض» و«الإختيار» و«العصفور» و«عودة الإبن الضال».

وكذلك يقتفي في هذين الفصلين أفلام السيرة الذاتية ليوسف شاهين الذي طالما تأثر ببيئته ومرحلة طفولته التي تعلّم فيها أن يحلم وأن يبحث عن طرق تحقيق أحلامه. وفيها يُحلّل رباعية شاهين الشهيرة «إسكندرية ليه؟» و«حدوته مصرية» و«إسكندرية كمان وكمان» وأخيراً «إسكندرية نيويورك». وفي «التاريخ، الأنا والآخر» يوضح الكاتب كيف أنّ يوسف شاهين «يستخدم الكاميرا كمكوك يستقّله ليقوم فيه برحلاته عبر التاريخ السياسي المباشر» كما في «جميلة الجزائرية»، أو تاريخ ما قبل القرن العشرين مثل «الناصر صلاح الدين» و«المهاجر» و«المصير». أو حتى «التاريخ الشخصي» كما جاء في الثلاثية التي قدّمت سيرته الذاتية وسبق أن ذكرناها. أمّا في «ما بعد الحداثة» فهي المرحلة السينمائية التي قدّم خلالها شاهين أربعة أفلام وهي «اليوم السادس»، «الآخر»، «سكوت حنصوّر»، «هي فوضى». وفي الفصل الأخير الذي يقع تحت عنوان «شاهين على موجات قصيرة» يُقدّم بحثاً عن إنتاجات شاهين في الأفلام القصيرة.

الكتاب الذي يقع في 317  صفحة من القطع الكبير لا يحتوي على دراسات خارجية أو مقالات فرعية وشهادات معينة، إلاّ أنّه ضمّ ثلاثة ملاحق مهمة ساهمت في إضفاء المزيد من المعلومات القيمة التي تُفيد القارئ التوّاق إلى ولوج العالم «الشاهيني» الواسع والمتعطّش إلى معرفة المزيد عنه. وهي تُطرح على هذا النحو: «سينما شاهين كما يراها «جو» و«سينما شاهين في مرآة الآخرين: «نقّاد عرب وأجانب» و«فيلموغرافيا يوسف شاهين».

قد يُخيّل إلى البعض أنّ هذا الكتاب ليس في الواقع بحثاً أو دراسة تحليلية لتجربة شاهين الإبداعية بقدر ما هو كتاب دعائي وإحتفائي نتيجة ظروف صدوره مثلاً، إلاّ أنّ نظرة دقيقة في مضمون التحليل وقراءة متفحصّة للكتاب من كافة خلفياته وزواياه تؤكّد عكس ذلك. فالكاتب الفاهم للغة شاهين السينمائية والمتمكّن منها يُدرك تماماً أنّه يبحث في سينما لا يُمكن توصيفها سوى بأنها «شاهينية»، إنما هذا لم يلغ مهنية الكاتب في شرحه وتحليله. فلم يندفع إلى تقديس شخصية شاهين وأعماله، بل اختار أن تكون الموضوعية مادة أولية يصنع بها نقده المهني المحترف. فيقول مثلاً في مقدمته «وإن كنّا نعرف أنّ ليس كلّ ما حققه شاهين ينتمي إلى هذا الفن الحقيقي...» وكذلك «في مسار يوسف شاهين أعمال لا ترقى إلى مستوى شاهين».

من هنا يُمكننا توصيف هذا الكتاب الصادر عن دار «الشروق» المصرية بأنّه مرجع مهم لفهم فلسفة شاهين السينمائية، لا بل قاموس يسمح للقرّاء ببساطة ولوج سينما شاهين وعالمه المعقدين. لقد أفلح إبراهيم العريس أخيراً في أن يخلق أرضية مبسّطة تسمح لكلّ محبي السينما بالإنتقال بخفّة بين مراحل سينمائية متنوعة لمخرج عبقري إسمه «يوسف شاهين».