الشاعر محمود عثمان: أنا ابن قرية حجارتُها تكتب الشعر

إسماعيل فقيه (بيروت) 13 مايو 2018

محمود عثمان، كاتب وشاعر وأستاذ جامعي، ينتمي الى الجيل الشعري الذي يمكن تصنيفه بجيل التسعينيات. له دواوين عدة، حرص فيها على أوزان الشعر الخليلية والتفعيلة، كما حاول التفلّت من الوزن لمصلحة التجربة النثرية، وأصدر حديثاً رواية بعنوان «أرواد ــ حكاية القبطان مصطفى البطريق». تنتمي أفكار الشاعر الى مفهوم الوعي الواقعي المفتوح، حيث للصورة الشعرية في قصيدته، مسافة أخرى في الشرح والوصف والإيقاع. للتعرف إلى الشاعر، كان لنا معه هذا الحوار.


- كيف تقدّم نفسك للقارئ، كشاعر وإنسان؟
رأت أمي وكانت حاملاً، أنها تمسك الهدهد بيديها، فعرفتُ أنني سأكون رسولًا بين العشاق كما كان الهدهد رسولاً بين سليمان وبلقيس. ثم إنّ الهدهد يتميز ببُعد النظر والتدقيق فلسفيّاً وقانونيّاً. كما أنني ابن جبل المكمل، هذه الصخرة العملاقة. ففي كل صباح، أصعد إلى القمة الزرقاء وأتأمل الحياة.

- من أين جاءت قصيدتك وإلى أين تذهب وأين هي اليوم، ولماذا الشعر في حياتك؟
انبثقت قصيدتي من النبع الأزلي للشعر الذي انبجس من الشعر الجاهلي، ومن قبله شعر سومر وبابل. وهو ينبع أولاً وأخيراً من قلب الإنسان ويصبّ فيه. وأنا ماضٍ في قراءة كل ما حولي من شعر وأدب وفلسفة وثقافة. وقصيدتي هي ابنة هذا الجبل، وهذا البحر. هي ابنة التراث العربي وتصبو إلى عِناق العالم. لا تسلني أين أنت اليوم من الخريطة الشعرية. حسبي أنني أغرّد، ولا بد من أن تصل أغنيتي إلى الناس وتتجاوز حدود المصطلحات وجدل النقاد. ولا بد من أن أؤمن بأنّ الشعر قوة خارقة تحرّك السماء والأرض وتُلهب قلوب الناس. فحياتي كلها للشعر، فهو هاجسي وقضيتي.

- كيف بدأت قصّتك مع الكتابة؟
أنا ابن قرية حجارتُها تكتب الشعر (بيت الفقس الضنية في شمال لبنان)، وقد سبقني رعيل وأكثر من شعراء الفصحى والمحكيّة والزجل. ومنذ انطلاقتي في مرحلتَي التعليم الأساسي والتكميلي، عشقتُ نصوص الأدب الواردة في المقرّر الدراسي. كم أدمنتُ قراءة تلك النصوص... وفي فصل الصيف، كنت إلى جانب العمل أنكبّ على قراءة ما تيسّر لي من كتب ادّخرتُ النقود لشرائها أو استعرتها، ولا أنسى مكتبة عمّي الدينية. وكان أساتذتنا في المدرسة شعراء زرعوا فينا حب الفصاحة والبيان وحفظ القصائد. ولعل وفاة والدي المبكرة وهو في الثامنة والأربعين في مثل عمري الآن، وكنتُ حينها في سنّ الحادية عشرة، دفعتني إلى الكتابة كوسيلة للبوح وتجاوز الواقع.

- لماذا تكتب الشعر، وهل تعتبره الأبلغ في التعبير، خصوصاً أنك تكتب الرواية أيضاً؟
الشعر هو لمح وتكثيف وإيجاد ومجاز. والرواية فضاء للسرد والتعبير عن المواقف النفسية والفلسفية من خلال القص. أنا أعشق التعبير بكل الوسائل والأشكال. وهكذا أخوض مغامرتي مع اللغة العربية في محاولة للقبض على الجوهر الإنساني القابع في داخلنا.

- كأنك منحاز الى القصيدة الكلاسيكية كتابةً ونقداً، لماذا؟
ومن قال ذلك؟ أنا منحاز الى الشعر والشعر فقط. كتبتُ القصيدة الموزونة وغير الموزونة. القصيدة ذات الوزن الخليلي والتفعيلة والنثرية. لستُ متعصباً لشكل من الأشكال، لكنني أعود بين الحين والآخر إلى كتابة القصيدة الكلاسيكية التي نعاها البعض، فإذا بها تنتفض ويزول الكفن. كما أعشق الكتابة المتفلتة من ضوابط الوزن التقليدي، والتي لها مذاق وطعم آخر. لا تهمّني الأشكال أبداً ولا التسميات. أدع التصنيف للنقاد والدارسين. وأحلّق كما أشاء، تارة على علو شاهق، وطوراً على علو منخفض. وأدوزن حنجرتي وفق رغبتي، وأُفرّغ الشحنة الشعرية في أي شكل وقالب أريده أو يريدني. وبما أنني أجيد الكتابة العَروضية، فلماذا أتنكر لها طالما أنني واثق بجناحيّ أكثر من الغصن الذي أحطّ عليه؟!

- ماذا تعني لك قصيدة النثر؟
هي فضاء للكتابة، لكنها فخ أيضاً. وأعتقد أنّ الجدل حولها قد تخطّاه الزمن. لقد أفسحت في المجال للتعبير على نطاق واسع واستدراج مجموعات من الغاوين إلى الميدان. أعني أنّ فئات واسعة من الناس تستسهل كتابتها ولا تدرك صعوبة الانتماء إلى هذه القصيدة. وليس سهلاً التمييز بين الخواطر النثرية وقصيدة النثر. من هنا، تضاعف عدد الذين يضعون أمام أسمائهم كلمة شاعر وشاعرة، لا سيما على صفحات التواصل الاجتماعي.

- ما هي الأفكار والعناصر التي تدعوك الى الكتابة، هل أنت شاعر قلق أم مطمئن؟
كل عنصر من عناصر الوجود هو مادة تصلح للكتابة في لحظة احتكاك الروح بالعالم، أو لحظة الوحي الشعري. ليس هناك موضوع عظيم وآخر تافه. بودلير مثلاً، كتب قصيدة جميلة في وصف جثة. والبحتري كتب وصفاً رائعاً للذئب. والشعر بهذا التصور هو حصيلة الثقافة والتجربة والتأمل. والتأمل قد يبدو اطمئناناً في الظاهر، لكنه بركان من القلق في الباطن. وقد سبقنا أبو الطيب المتنبي في القول: «على قلق كأنّ الريح تحتي». والفنّان في حالة قلق دائم لأنه يبحث عن التجدد والابتكار والخلق على مستوى الأسلوب، وتوسيع تجربته الفكرية والوجدانية والثقافية وتعميقها. وباختصار، ليس المهم ماذا تكتب، بل كيف تكتب.

- هل الحب ضرورة للكتابة، وهل قادك إلى مغامرة الحياة؟
المحبة بمفهومها الشامل ضرورة للكتابة. فأنا أعشق الطبيعة ولها حضور قوي في أدبي. وأعشق بلادي بجبالها وأنهارها وبحارها. وأعشق الإنسان بقوّته وضعفه. أما الحب بين رجل وامرأة، وهو أمر استثنائي جداً، فهو دافع أساسي إلى الإبداع لكي يحسّن كل طرف صورته لدى الآخر. العاشق يريد أن يبرز أجمل مزاياه ومواهبه أمام المعشوق. من هنا، يشكل الحب دافعاً للكثير من النشاطات الفنية والشعرية وحتى الاجتماعية. ولعلي قرأتُ عن الحب أكثر مما عشتُه. وللخيال نصيب وافر في هذا الصدد. وقد تكون مغامرة الحب هي نفسها مغامرة الحياة التي يحس الإنسان بتناقصها يوماً بعد آخر، فيكتب عنها وينسى أن يعيشها كمغامرة رائعة.

- يقال إنّ المعاناة هي أمّ الكتابة... هل يمكن القصيدة أن تولد من رحم السعادة أو العكس؟
كثيراً ما يولد الشعر لحظة احتكاك الحزن بالفرح. البرق يولد عند تصادم ما. وإذا كان الألم هو أنبغ ما في الحياة كما قال أحمد شوقي، فهذا الألم نوعان: ألم الحزن وألم الفرح. معاناة الكآبة ومعاناة السعادة. الفرح شعور غريب لدى إنسان أدمن الحزن. وإذا كان البرق يتشكل بسبب تصادم قطرات المطر الصاعدة إلى أعلى مع الساقطة إلى أسفل، فالشعر يتشكل من تصادم أحاسيس الفرح بالحزن.

- كيف تحضر المرأة في نصّك ولماذا، وماذا تعني لك؟
قلت في إحدى قصائدي: «الجنّة من دون امرأة منفى». أتصور أنّ العقاب الشديد لآدم هو إبعاد حواء عنه. لكنّ الله طردهما معاً. حواء جائزة الطرد. والحب هو الفردوس المفقود الذي نبحث عنه دائماً. لذا كتبتُ شغفي بالمرأة جسداً وحضوراً ورمزاً. في هذا المجال، لا أنكر تعلقي بأمّي كيتيم عشتُ وإخوتي تحت جناحيها. ولعلي كنت أبحث في اللاوعي عن حبيبة تمثّل الأم. إلا أنني أكنّ احتراماً خاصاً للجمال والمرأة الجميلة، أنحني لصفصافها وحورها وتفاحها، لكنني رغم الزوابع العاطفية التي انتابتني، أتساءل: هل عرفتُ الحب الحقيقي أم أنني أخدع نفسي؟ لعل بعض الومضات أشرقت في حياتي ثم اختفت. في كل حال، لي مجموعة شعرية بعنوان: «أقول ستأتي التي أشتهيها». هل أتت أم أنني أعيش حالة انتظار؟ على الأرجح، لو أنها أتت لانشغلتُ عنها بانتظار صورتها في خيالي. أحب عائلتي، وفي هذا الحب نعمة كبيرة. وأتصور أنّ حب الأم لطفلها يفوق كل حب.