العازفة السعودية جهاد الخالدي: تبث ألحان الثقافة الموسيقية بخطط مستقبلية

عزيزة نوفل (جدة ) 27 مايو 2018

بعينين مغمضتين وأذنين صاغيتين وأنامل مُحكمة، تعرفت في طفولتها المبكرة على صوت الموسيقى العذب الذي كان يصدح في أحلام يقظتها. وبين النوتة والنوتة وجدت شغف حياتها ومضمون رسالتها، التي تناهت إلى ما هو أبعد من مجرد أداء مبهر ومميز... هواية لم تكن مألوفة في المجتمع السعودي، تميّزت بها عازفة الكمان الأولى في المملكة السيدة جهاد الخالدي والتي اشتهر اسمها بعدما مثّلت وطنها في معرض الكتاب الأخير في القاهرة، ومسيرة من العزف في مختلف بلدان العالم. في هذا الحوار، تُحدّثنا الخالدي عن حياتها المهنية الحافلة بالإنجازات، وطموحها الكبير بإنشاء أكاديمية لتعليم الموسيقى في المملكة.


وجدت في الموسيقى الحافز لتعلّم المزيد

- اقتحمت عوالم اللحن والنغم منذ أن كنت في سنّ الثامنة بإلحاح من والدتك لدخول معهد للموسيقى «الكونسرفتوار» في القاهرة، وبين الدراسة وتتبّع الموهبة، ما المراحل التي مررت بها؟
شغفي بتعلّم الموسيقى منذ الصغر جعلني أحظى بيوم حافل بالمهمّات. فبعد انصرافي من المدرسة، كنت أذهب مساءً الى المعهد لتعلّم الموسيقى بكثافة من خلال دراسة النوتات والسُّلَّم الموسيقي والعزف والاندماج مع كورال الأطفال. ووفقاً لاختبارات السمع التي خضعت لها، وُجّهت لتعلّم العزف على آلة الكمان لتكون عرّابة موهبتي وعشقي لفن الموسيقى، فتذوقت من خلالها شغف تتبّع النوتة الصحيحة والأداء المتقن. وبعد مراحل من الجهد والدراسة، انتقلت من عزف المقطوعات القصيرة والصغيرة إلى مقطوعات كلاسيكية شهيرة كاملة، مما جعلني مميزة وسط زملائي لأنضم في المرحلة الثانوية الى «الأوركسترا» في «الكونسرفتوار» نفسه، وأجوب بلداناً كثيرة وأعزف على مسارحها.

- خلال مراحلك المبكرة، ألم تكن ارتباطاتك الكثيرة مُضجرة وتودّين الهرب منها للّعب كباقي الأطفال؟
لا، بل على العكس كان تعلّم الموسيقى واكتشاف ذاتي في آلة الكمان أشبه بالتحدّي. فاجتياز أي مرحلة يدفعني لتخطّي ما يليها بنشوة وفرح، مما صقل شخصيتي وعزّز أدائي على الصعد الدراسية والعملية والاجتماعية. ولا شك في أن دعم أسرتي ومن بعدهم زوجي وتحفيزهم لي في أثناء الدراسة والعمل كان لهما أثر بالغ في استكمال مسيرتي.

- العزف المُتقن أمام جمهور متذوق وخبير بالموسيقى من أصعب التجارب، ما أكثر اللحظات التي مررت بها إرباكاً؟
قد يرى الكثيرون أن العمل وسط مجموعة كبيرة ربما يخفي بعض العيوب والزلاّت، ولكن هذا لا ينطبق على الموسيقى أبداً، فثوانٍ من العزف غير المتقن لأحد العازفين كفيلة بتشويه «سمفونية» كاملة أدّاها 70 عازفاً في خلال 45 دقيقة كاملة، وهذا كان يُسبّب ضغطاً وتوتراً نفسياً لي ولباقي العازفين في كثير من الأحيان. وشعرت بشدّة هذا التوتر حين مرض «المايسترو» في يوم عزفنا على إحدى المسارح، واضطررنا لاستبداله في لحظتها بـ«مايسترو» آخر من دون الخضوع لأي تدريبات مُسبقة معه، لكن بفضل مهارته تمكّنا من تقديم عزف جيد وخالٍ من الأخطاء.


تعلّم العزف يُصقل المهارات ويعزّز القدرات

- حبّك وشغفك بالموسيقى وتجاربك الناجحة في هذا المجال، لماذا لم تدفعك إلى التفرغ التام للعزف؟
رغم عشقي للموسيقى، لم أجد في امتهانها طموحاً يُشبع رغبتي، ففضّلت أن تكون بمثابة متنفس أو هواية تشاطر أحلامي. لذا، وبالتزامن مع دراستي للمحاسبة وإدارة الأعمال في الجامعة، تخصّصت في «الكونسرفتوار» في قسم التربية الموسيقية، لرغبتي الجامحة في تعليم هذا الفن. ورغم صعوبة التوفيق بين دراسة المجالين، نجحت في اجتياز هذه المرحلة، وتخرّجت في قسم المحاسبة، وحصلت بعدها على الماجستير في إدارة الأعمال. ببساطة، كانت الخيارات مفتوحة أمامي، لذلك جمعت بين أكثر من مجال. وإن كنت في الواقع أعمل في مجال الإدارة، إلا أنني لا أنكر فضل الموسيقى على حياتي الدراسية والعملية، فالموسيقى صقلت مهاراتي وعزّزت قدراتي العقلية والتدبيرية في الموازنة وتنظيم الوقت والمثابرة المستمرة، وهذا ما حققته من خلال عملي في مجال الإدارة، حيث تقلّدت مناصب إدارية مهمة في حياتي، فكنت مديرة مالية في المستشفى العسكري لأكثر من عشر سنوات، واليوم أنا رئيسة مالية تنفيذية لمجموعة مستشفيات المغربي في الوطن العربي.

- لحن الشجن والحنين الذي تعزفينه على آلتك بحسّك العاطفي المرهف، كيف جمعت بينه وبين شخصية الإداري الحازم والصارم؟
المستمع المتذوّق للفن يستنشق العواطف من خلال اللحن المعزوف ويعيش في عالمه الرومانسي الأخّاذ، في حين يمرّ العازف بمراحل صعبة ومعقّدة للوصول إلى هذا الأداء، فالدراسة والمثابرة والتركيز العالي والضغط على النفس لتقديم أفضل أداء، تجعل العازف يجمع ما بين شخصية الفنان المرهف والقيادي الحازم، وهذا ما ينطبق عليّ تماماً.

- لستِ حديثة العهد في العزف، لكن لماذا لم يشتهر اسمك إلا حديثاً من خلال معرض الكتاب في القاهرة؟
في الحقيقة، لا أرغب في البروز إعلامياً كعازفة سعودية، بمقدار ما أهتم بتقديم الثقافة الموسيقية بطريقة أكاديمية صحيحة.


الثقافة والخبرة الموسيقية في الوطن العربي لا تزالان في بداياتهما

- الآلات الموسيقية متنوعة وكثيرة، لكنْ أيّ منها الأسهل ويمكن تعلّمه في سنّ متقدّمة، وما الآلة التي تميلين إليها بعد الكمان؟
ما من آلات صعبة وأخرى سهلة، فلكل آلة تقنية معينة تحتاج إلى إتقان، ولكن هناك آلات يصعُب تعلّم العزف عليها عند التقدم في السنّ، مثل «الكمان» و«البيانو»... حتى وإن تعلّم المرء العزف على هاتين الآلتين، فلن يكون عزفه سلساً ومتقناً كما لو تعلّم ذلك في الصغر. كذلك يُعدّ «الغيتار» من الآلات التي يسهُل تعلّمها في أي عمر كان. أما آلات النفخ فقد يكون من الأفضل تعلّمها في سنّ متقدمة لأنها تحتاج إلى نفَس طويل وقوي. وأنا شخصياً، أميل الى سماع أنغام آلة «التشيللو» التي تحتاج إلى قدرة وتقنية عالية. 

- خلال العام الماضي أُقيم في المملكة عدد من الحفلات الغنائية والموسيقية، إضافة إلى اهتمام شريحة كبيرة في المجتمع بجلب عازفين وعازفات لإحياء مناسباتهم الخاصة، كيف تقيّمين الثقافة الموسيقية في المملكة؟
كل تلك الفاعليات تعكس وجود طلب وإقبال من العامّة على الاستمتاع بالموسيقى وتذوّقها. ولكن هذا الطلب إن لم يُوجّه بطريقة صحيحة، سيُنشئ لنا جيلاً وجمهوراً لا يتقن فن التذوق والتفريق ما بين الموسيقى الجيدة التي تحمل في طياتها مادة دسمة وعِلماً معقداً، ومجرد أغنيات رائجة في وقتها وتندثر. لذلك أتمنى ألا تقتصر الموسيقى في هذه المرحلة على جلب أسماء وفنانين لغرض الترفيه فقط، وإنما تساهم في نشر الثقافة أيضاً. وبشكل عام، نفتقر في الوطن العربي الى الثقافة الموسيقية التي تجعل الفرد قادراً على معرفة مضمون اللحن والإيقاع وما يميزه عن غيره، وأحلم بأن تُتاح لي الفرصة في وطني لتنظيم حفل موسيقي كامل، يخوّلني العزف في فرقة موسيقية تضم عازفين محترفين من دول أوروبا، لتقديم معزوفات عالمية بأفضل أداء.

- من خلال تجربتك تركزين دائماً على أهمية تعليم الموسيقى للأطفال. في رأيك، هل إن أي طفل، ومهما كانت ميوله، قادر على تعلّم الموسيقى؟
اهتمامي بتعليم الموسيقى للأطفال لا ينبع من سعيي لتأهيل عازفين محترفين بمقدار اهتمامي بنشر ثقافة الموسيقى الصحيحة، من خلال التعرف على النوتات والسُّلَّم الموسيقي والآلات وأصواتها. وأعتقد أن تعليم الموسيقى كمادة رئيسة في المدارس يوازي في أهميته باقي العلوم. وأكدت دراسات عالمية كثيرة أن عدداً من الأطباء والمحامين الذين تدرّبوا على عزف الموسيقى في طفولتهم هم أكثر كفاءةً وأعلى أداءً من غيرهم، فالموسيقى يجب أن تُعلَّم للجميع باختلاف ميولهم وأهدافهم.


إنشاء أكاديمية لتعليم الموسيقى حلم ينتظر التصريح

- ما الفوائد التي تلمسينها من تعلّم الأطفال العزف بشكل عام؟
تعلّم الموسيقى والتدرّب على العزف يعملان على استغلال حواس الطفل وتركيزه بشكل عالٍ جداً، بما يشبه التمرّن وممارسة الرياضة. فالموسيقى ليست مجرد أصوات نابعة من دندنات، بل هي علم له وزن وحساب، وسيعلّم الطفل فن الإدارة والصبر وتنظيم الوقت وترتيب الأولويات بنحو متآلف، هذا إضافة الى أن الموسيقى تساهم في تقوية الروابط الاجتماعية بين الطفل والآخرين وتوسيع نطاق علاقاته مع زملائه الذين يشاركهم العزف. ومما لا شك، فيه أن الموسيقى تجعل الطفل أكثر ثقةً للتعبير عن ذاته أمام الناس، وتمنحه شعوراً أفضل حين يسمع ما تعلّمه.

- بعد سنوات من العمل والكد وتميّزك وظيفياً، ما زلت تتسلّحين بالولاء للموسيقى، وتحملين على عاتقك الكثير من الأفكار والمشاريع التي ستُحدث نهضة موسيقية، ما هي بنود نشر الثقافة الموسيقية في المملكة؟
بصفتي إدارية، أنظر إلى هذا الموضوع نظرة علمية بحتة، تتمركز على تطبيق ثلاث استراتيجيات، أولها إنشاء أكاديمية لتعليم فن الموسيقى للأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و13 عاماً، بمعدل يومين في الأسبوع، يتلقى خلالها الأطفال دروساً في العزف ويُدمجون في الكورال لتعليمهم أساسيات العزف ومنحهم شهادات معتمدة. والاستراتيجية الثانية تكمن في تعليم مادة التربية الموسيقية في الجامعات ليتخرّج فيها معلّمون ومعلّمات يدرّسون الموسيقى العامة للطلاب في المدارس. أما الاستراتيجية الثالثة فتتجلّى في دعم المحتوى الإعلامي للموسيقى من خلال برامج التلفزيون والإذاعة وتنظيم حفلات موسيقية تُعنى بتقديم فن الموسيقى الراقي الذي يهدف الى تذوّق الموسيقى وتعزيز الثقافة الموسيقية وليس الترفيه. هذه الاستراتيجيات الثلاث كفيلة بالنهوض بالثقافة الموسيقية في المملكة خلال خمس أو سبع سنوات بشكل ملحوظ.

- ما الذي يقف في طريقك لتحقيق حلم إنشاء أكاديمية لتعليم فن الموسيقى؟
في الحقيقة، فكرتي بإنشاء هذا المشروع مكتملة من كل النواحي، فدراسة المشروع بالتفصيل صُمّمت بشكل يضمن نجاحه محلياً، كوني أهدف إلى افتتاح فروع في مناطق المملكة على مستوى عالٍ، وتعليم فن الموسيقى وفق منهجية أكاديمية عالمية على يد محترفين معروفين ومؤهّلين، ومنح الطلاب شهادات دبلوم في الموسيقى، وتخريج عازفين يمثّلون المملكة في المحافل الدولية. ولجعل هذا الحلم واقعاً، قدّمت طلباً الى وزارة الثقافة والإعلام في المملكة لمنحي ترخيصاً بإنشاء الأكاديمية، متمنيةً أن يتم إرشادي الى الطريق السليم ودعمي بالخطوات التي يجب أن أقوم بها لنيل الترخيص.

- ماذا تقولين لكل من يقلّل من شأن فن الموسيقى وأهمية تعليمه؟
غاب عن أذهاننا الكثير من المعلومات التي تتعلق بروّاد العلم والطب والفن في العصور السابقة، واهتممنا بما قدّموه من علوم من دون النظر الى خلفية مهمة في حياتهم، فكم منا يعرف أن ابن الرشد كان يؤيد الموسيقى، وأن العلاّمة ابن سيناء كان عازفاً موسيقياً! من هذا المنطلق، تُعد الموسيقى ثقافة لا تتجزأ عن العلم وليست مجرد ترفيه، وأطمح في الحصول على دكتوراه يتمحور موضوعها على تأثير تعلّم العزف والموسيقى في الصغر في حياة الإداريين المهنية، لإيماني التام بفوائدها الجمّة على الصعد كافة.