محمد البساطي

المجتمع المصري, دار الآداب للنشر, رواية / قصة, محمد البساطي, جائزة بوكر العربية, الطبقة الإجتماعية المعدومة, أزمة المأكل, الطبقات الفقيرة, ريف مصر, أزمة المسكن, مدن مصر, الحقوق الإنسانية, مشرب, المسكنات, ملبس, الجوع المذل, الوضع الإجتماعي, الوضع الإق

18 يناير 2010

الكتاب: «غرف للإيجار»

الكاتب: محمد البساطي

الناشر: «دار الآداب»، ٢٠١٠

يبدو أنّ الكاتب المصري المخضرم محمد البساطي اختار أن يكون عرّاباً للطبقة المعدومة في مصر، فبعد روايته الأخيرة «جوع» (وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة «بوكر»)، أصدر أخيراً عن «دار الآداب» روايته الجديدة «غرف للإيجار» التي تتناول أيضاً قضية الفقر المدقع وتداعياته على أحوال الأسرة المصرية وإنما من منظار آخر. ففي «جوع» عرض الكاتب أزمة المأكل لدى الطبقات الفقيرة في ريف مصر بينما انتقل في «غرف للإيجار» للغوص في أزمة المسكن في مدن مصر واضعاً إيّاها تحت مبضع التشريح والتحليل الدقيق من خلال ثلاث حكايات تعود لثلاث عائلات تسكن في شقة قديمة مكوّنة من ثلاث غرف.

ففي العنوان «غرف للإيجار» يرى القارئ مشهداً مؤلماً اتخذّه الكاتب من قلب الواقع ليصوّره في رواية تُضيء على مرارة العيش وقساوته لدى فئة ليست قليلة في المجتمع وإنما مسدول الستار عليها وعلى أحوالها المُفزعة واللاواقعية من شدّة واقعيتها.
فالكاتب يرى أنّ أبسط الحقوق الإنسانية التي من المفترض أن ينعم بها الفرد من مأكل ومشرب ومسكن وملبس هو محرومٌ منها في مجتمع يحكمه كبار رجال الأعمال. لذا أراد البساطي في كتاباته أن يوجّه صرخة هؤلاء المحرومين من كافة حقوقهم الإنسانية.
فبعد تجسيد معنى الجوع المذّل في روايته السابقة، اختار الكاتب أن يعرض حجم البؤس الذي تعيشه هذه الفئة المقهورة من الناس غير القادرة على إيجار شقّة صغيرة. فالغُرف باتت تُؤجّر، والعائلات المتشابهة في ظروفها باتت تتشارك المنزل نفسه حيث لا ينعم أفرادها بأي نوع من الحريّة أوالإستقلالية والحميمية.

هذه الرواية لا تتعدّى ١٥٥ صفحة من القطع الصغير، إلآّ أنّها تصوّر حياة شريحة كبيرة من المجتمع بالكثير من القوّة والدقّة والجرأة، وتسمح للقارئ بأن يتعرّف عن كثب إلى فئة مسحوقة تعيش على هامش المجتمع من دون أن تجد من يسأل عنها.
واستطاع الكاتب أن يتناول هذه القضية الشائكة والمعقّدة بلغة مقتضبة ومختصرة وإنما مشحونة بدلالات رمزية متعدّدة، فشخصية بدوي مثلاً المشغول دائماً بإقامة علاقة حسيّة مع زوجته دون أن يتمكّن من إتمامها ليست سوى ترجمة رمزية لحالة العجز التي يعيشها الشعب الفقير الذي لا يتمكّن من إحداث أي تغيير قد يُريحه ويُحسّن وضعه الإجتماعي أو الإقتصادي رغم حلمه المتواصل بذلك.
كما أنّ الرواية تبتعد كثيراً عن النَفَس السياسي ولا تعكس أي وجهة نظر في هذا المجال، إلاّ أنّه لغياب الموضوع السياسي في هذه الرواية، التي تتحرّك في أفق واحد ومحدّد، دلالة رمزية كبيرة تُضيء فكرة انشغال الفقراء بهموم حياتهم اليومية البائسة وبتأمين أبسط حاجاتهم الأساسية كبشر.

يستهلّ الراوي سرده في القسم الأوّل من الرواية باستخدام ضمير الغائب لوصف الشقّة والتعريف عن العائلات التي تقطنها: «الشقّة في بيت قديم. من ثلاث غرف. بكل غرفة عائلة. الباب الخارجي مفتوح ليل نهار.
لا يوجد في الصالة ما يُخشى عليه، وكلّ عائلة تغلق باب غرفتها على نفسها وأشيائها».
(الصفحة الأولى)، بينما يُمسك السرد في القسم الثاني إحدى شخصيات الرواية (عبّاس) باستخدام ضمير المتكلّم: «غرفتي فوق السطح، تشغل ركناً من الجانب الأيمن، تطلّ على رأس السلّم، أوارب الباب وأرى من رقدتي الأقدام التي تهبط وتصعد، وقد يمرّ يومان أو ثلاثة لا أرى قدماً، وعندما أراها أظلّ في رقدتي لا أتحرّك، صاحبها لا يقصدني، فلا أعرف أحداً يمكن أن يزورني، وأسمع الخطوات في طريقها إلى الغرفة الأخرى...».

إلاّ أنّ اختلاف مستويات السرد بين القسم الأوّل والثاني لا يعكس اختلافاً في مناخ الرواية ككلّ لأنّها تبقى منذ بدايتها وحتى الصفحة الأخيرة منغمسة في المكان نفسه حيث يعيش الجميع في ظروف مأساوية واحدة.
ففي الشقّة القديمة يعيش في الغرفة الأولى عوض الفوّال وزوجته فاطمة الجميلة، وفي الغرفة المجاورة بدوي الفرّان وزوجته المفعمة بالحياة عطيّات، والثالثة يشغلها عثمان الموظّف في مكتب تابع لسكّة الحديد وزوجته هانم وابنهما.
نلاحظ في القسم الأول أنّ الراوي يقوم باسترجاع زمني بسيط للإطلاع على ماضي الشخصيات قبل وصولها إلى الغرف.
وفي القسم الثاني يتسلّم عباس مهمة السرد فنتعرّف إليه وإلى باقي شخصيات الرواية بلسانه لنجد أنّ الظروف المتشابهة تجمع بين الأشخاص مهما كانوا مختلفين. فشخصية عبّاس تختلف في حيثياتها عن باقي شخصيات الرواية، فهو الوحيد الذي يمتلك وعياً واعتدالاً في داخله. إنّه يتعاطف مع البعض ويُساعد البعض الآخر ويحلم بتطوير نفسه ونشر مقالاته، إلاّ أنّ ظروفه الإجتماعية والمادية السيئة جعلته يسكن إحدى غرف السطح مع باقي الشخصيات المعروفة بسطحيتها وسذاجتها. أمّا المرأة في «غرف للإيجار» فهي التي تُجسّد الواقع المعدوم في الرواية.

إنّها الشيء الوحيد الذي يُفجّر فيه الرجل المسحوق اجتماعياً واقتصادياً عقده وغضبه، إنّها «كبش المحرقة» والمرآة التي يرى من خلالها الرجل ذكورته وقوّته ومنفعته. عوض الفوّال مثلاً يغار على زوجته ويضربها وهي لا تحرّك ساكناً خوفاً من العودة إلى منزل والدتها حيث تحرّش بها زوج أمها، وهانم التي كرّست حياتها لابنها تضطر دائماً للإنصياع لأوامر زوجها الذي يختفي فجأة ويتركها وحيدة مع مسؤولية إعالة طفلها الصغير، مّا عطيّات فتُعاني من تصرّفات زوجها الذي اعتاد أن يترك عمله فجأة قاصداً إيّاها للنيل منها.
والمفاجئ أنّ تلك النساء اللواتي تزوجن جميعهن دون حب أو إعجاب أو حتى تفاهم يُحاولن رغم كلّ شيء التغلّب على ضراوة ظروفهن عبر الضحك والمرح وتخيّل قصص حبّ وهمية، وكذلك من طريق التغزّل ببعضهن البعض كتعويض عن طريقة تعامل أزواجهن القاسية والعدوانية معهن حتى في أكثر اللحظات الحميمة.
والحوار الذي دار بين فاطمة وعطيّات ( ص ٦٢) يُكرّس جليّاً هذه الفكرة: «عودك حلو يا فاطمة.- بسّ يا عطيّات أنا بانكسف.- فيه واحدة تنكسف من حلاوتها. وجوز رجلين ياه... - لو جوزي يقول لي نصّ كلامك. - لا جوزي ولا جوزك. الراجل يأكل وينكر. ولا حتى كلمة تسرّ...».
في هذه الرواية استطاع الكاتب محمد البساطي أن يختزل المجتمع المصري الفقير بكلّ فئاته المسحوقة في شقّة واحدة سامحاً لنا بولوج عالمهم المظلم من أثر ضباب «الحشيشة» وعتمة «الجهل» وضيم «الفقر» عبر غرف ضيقة تُجسّد كلّ معاني التهميش والبؤس واللاإنسانية.