الشاعرة منغانا الحاج تكتب «برهان الخائف»

إسماعيل فقيه (بيروت) 03 يونيو 2018

الشاعرة اللبنانية منغانا الحاج تكتب القصيدة الهادئة التي لا تخلو من النبرة الصاخبة. نبرة القصيدة التي تكتبها تحمل الكثير من النبرات، كالحب والقلق والسؤال. نبرات هادئة تتحول في اللغة المكتوبة الى صدى يتردد في نواحي البال والحياة. شاعرة يسكنها القلق المفتوح على أسئلة الخوف والبرهان والشك. وربما كانت قصيدتها «برهان الخائف» (عنوان كتابها) البرهان الذي يفتح باب القلق على مداه... تتحدث الشاعرة وتخبرنا أكثر عن مسار حضورها وهدوئها وخوفها، في الحياة والشعر، فماذا تقول؟


- مَن هي منغانا الحاج؟ وكيف تعرّف عن نفسها وعن قصيدتها؟
أنا امرأة مسكونة بالقلق وُجدت صدفة على هذا الكوكب، في قلب عالم لا يرحم، يشعرك كل لحظة بالخواء، وأنت كائن مرهف لا تملك لصدّ هذا العالم البائس سوى بضع كلمات ومفردات تشهرها بوجه هذا الخواء.
وُلدت وترعرعت في كنف قرية وادعة، كبرت في ظلال الحور والصفصاف والزيزفون، في جو ريفي عابق بروائح البساتين والزنبق وبخور مريم، هذا ما جعل نصي الشعري ينحاز الى رموز الطبيعة ومعجمها الريفي، أتوسلهما كناية أو استعارة، بهما أسبر عمق الأشياء لأفهم كينونتها ومن خلالها كينونتي وشرطي الإنساني.
قصيدتي في قلب الحداثة، قوامها نص نثري، متفلت من الضوابط ، إلاّ  من إيقاع  داخلي، يلملم أصداء الكلمات والمعاني، في تكثيف لغوي يشبه بتقطيعه لعبة «البازل»، ما يعكس رؤيتي الفلسفية الى الوجود والعالم، حيث أن استيعابنا حقيقة الحياة يفترض منا أن نتلقفها بجرعات.

- لماذا الشعر في حياتك، منذ متى وكيف بدأت تتلمسين ملامح الشعر في حياتك؟
منذ حداثة وفي عمر مبكر، لم أتجاوز خلاله الرابعة عشرة، شغفت بالشعر وتملكتني الرغبة في الكتابة، ذاك أن الشعر كان ولا يزال يأخذني الى مملكة العقل واللغة، الى المكان الذي «لا أعود أشعر فيه بالمهانة». على حدّ تعبير الشاعرة الأميركية كاي رايان، وما أكثر الأشياء التي تشعرنا بالمهانة وتحاصرنا في هذا العالم الذي لا يني يرفع حيطانه في وجوهنا ويسربل أرواحنا.

- ما الذي تكتبينه في القصيدة، الدافع أو المحرّض على كتابتك للقصيدة؟
لا يكفي أن تصمتي، عليك أن تقولي شيئاً آخر. على هذا النحو، جاء الصوت الذي حضّ منذ البداية على الكتابة والإقامة في القصيدة. لقد آمنت بالشعر كقيمة جمالية تلامس الجانب المعتم من ذاتي، وتحيلني الى كائن نوراني يقيم في الشروق ويرى شيئاً آخر رديفاً للصمت عندما أكتب. أكتب الخواء والامتلاء، الحب والكراهية، اليأس والأمل، الموت والحياة .
عندما أكتب، أعيد قراءة أشياء هذا العالم بصياغة فنية جديدة، ألملم النافلة والمنسي وكأني بي أعيد تفسير العالم وقراءة ذاتي ومسح الغبار عما هو مبهم وغامض وعصيّ على الإدراك. بكلام آخر، حين أكتب القصيدة أنعتق من شجني الذاتي وتهيم روحي في فضاء حر جميل، لكأنّ الإقامة في القصيدة هي فعل تطهّر.

- هل تعتبرين نفسك شاعرة تنتمين الى جيل محدد؟
بدأت الكتابة في أوائل الثمانينات، لكني تأخرت أكثر من عقدين لأصدر باكورتي الشعرية «عمر الماء» في 2005. ومن الطبيعي أن أجد نفسي مع كوكبة الشعراء الذين برزوا في تلك الفترة. شغلني شعرياً بسام حجار، وديع سعاده، سركون بولص، عباس بيضون وآخرون. وإذا شئت، فإنني أنتمي الى الجيل الذي أعقب جيل هؤلاء. في كل حال، القصيدة المتألقة ترفض التأطير، وتذهب الى أبعد مما هو مرسوم لها، هي خارج التصنيفات. أؤمن بالتطور، والتجاوز، لأن الجمود يعني الموت. لا أبشر بالقطيعة مع الأسلاف إلاّ في حدود ضيقة ترتبط بشكل القصيدة وهندستها العامودية.
أنا مع كل نص جميل ومؤثر بغض النظر عن الزمن الذي يؤطره. فالمعيار الجمالي بالنسبة إلي هو مدى راهنيته وانحيازه الى رؤية حداثوية وفنية جديدة.
التطور والحداثة هما صيرورة حتمية لحياة الإنسان عبر كل الأجيال والعصور. الشعر أيضاً هو من مستلزمات هذه الحداثة وميدان مهم يأبى التأطير والتقولب. من هنا انحيازي الى قصيدة النثر كنوع أدبي يواكب رياح الحداثة ويتماشى مع هبوبها، لا كموضة راهنة، سريعة الزوال.

- هل المرأة أقدر على التعبير شعرياً من الذكور، كونها كائناً عاطفياً وشفافاً جداً. وهل لهذا تأثير في ولادة النص الإبداعي؟
لا أقبل التصنيف في الكتابة الشعرية، ولا أحبذ التعريفات التي ترى في النتاج الإبداعي عناوين ذكورية وأخرى أنثوية. بمعنى آخر، ليس في عرفي أن هناك أدباً نسوياً وأدباً ذكورياً، بل هناك أدب جيد وآخر غير جيد، نص مبدع ونص رديء، رهافة الإحساس ليست حكراً على المرأة، بخاصة في زمننا حيث تتقاطع الأدوار وتزداد المرأة استرجالاً. قد تعادل أحياناً رهافةُ رجل واحد حساسيةَ عشر نساء.
فالكائن البشري هو كائن بغض النظر عن جنسه. الوعي والرهافة يتولدان بالفطرة وليسا لعبة هرمونات. إما أن تكون ذا حساسية عالية ومبدعاً خلاّقاً أو لا تكون. المعيار يكمن في وعينا للأشياء، وفي قدرتنا على ترجمة هذا الوعي الى نص شعري متجلٍّ.

- الحب، كيف يحضر في قصيدتك وفي حياتك؟
كل عمل مبدع هو فعل حب. الشغف هو المحرك لكتابة القصيدة. الحب بمعناه الشامل والمطلق.
الحب حاضر في قصائدي وفي حياتي، ولا أخالني يوماً إلاّ أن أكون عاشقة. عندما أكتب يكون في بالي أحدهم، شخص آخر أنشده وأناجيه وأحاوره وأحاول أن أردم الهوة التي تهدد العلاقة بيني وبينه. أردم الوقت والزمن المحكوم بالعادة وأنا أبحث عن فردوس خاص يلحّ عليّ بالسؤال.

- ماذا يعني لك الرجل ، وكيف يحضر في نصك الشعري ولماذا؟
الرجل حاضر في قصائدي، فهو الثيمة الأقوى في كل ما أكتب حتى لو لم يكن ظاهراً للعيان. فالنص الشعري مهما كان عنوانه هو حوار مع الذات أو مع آخر رديف لها. فأنا عندما أكتب عن الخيبة مثلاً، أستدرج من ينتشلني من هوّتها أو عندما أتحدث عن الموت أستدرج الحب لساحتي، لأننا به ننتصر على الموت.

- متى تكتبين، هل من طقوس في الكتابة لديك؟
نعم، لكتابتي طقوس وعادات، تحضر الفكرة عادة وأنا ممددة على فراشي في الليل، تتدفق الكلمات والعبارات وتهدر في رأسي. أستعرض شريطها وأنا شبه نائمة بين اليقظة واللايقظة، أتلقف القصيدة بما يشبه المنام الذي يفبرك صوراً تبدو في البداية مشتتة. أنهض من نومي وقد أفلتت مني بعض المشاهد وغابت بعض التفاصيل، وأحياناً أستنسخها كما هي على الورق كمن يستظهر قصيدة، فأنكبّ على لملمة حروفها بشغفٍ، وأجعل من الورق ميداناً لها. أكتب وأعيد كتابة ما كتبت مرات ومرات الى أن تروق لي القصيدة. قد أخفق ولا تنجح المحاولة، أستنفد أحياناً أوراقاً عدة لأنجز مقطعاً. قد أمضي الى نهاري وفي قرارتي أن الأمور لم تنضج بعد وعليّ الانتظار.

- هل أنت شاعرة تكتب لتفرح أو لتقول ما يجيش في أعماقها القاسية والحزينة؟
في كل ما أكتب سؤالي الملحاح هو البحث عن الفرح وتجاوز الذات الى فضاء أبهى وأجمل وأشد فتنة. أنا امرأة متقلبة المزاج، قلقة، تستنفد الأشياء بسرعة، عدمية أحياناً، متطيرة في الغالب. لذا عندما أكتب، أكون تحت وطأة مشاعر قاسية وحزينة. أيضاً هي لحظة انتصار وتجاوز. قد تكون الكتابة أملي بالشفاء، سلاحي أشهره بوجه الزمن والموت.