سفينة «الواق واق» مترنّـحة باتجاه التصاعد

02 يونيو 2018

كتب الزميل امين حمادة في الشقيقة "الحياة" تحت عنوان "سفينة «الواق واق» ... مترنّـحة":

يتخطى مسلسل «الواق واق» عتبة النصف، من دون أن يصل إلى ذروة درامية منتظرة في حلقاته انفصالاً واتصالاً. في السمة العامة، يكتفي ببسمات خفيفة كثيرة وضحكات قليلة، بعمق في الحوار والشخصيات وضعف في الموقف الكوميدي غالباً. الخيبة ليست نهائية ولا محسومة، بل الأمل يفرضه أداء الممثلين بمعظمهم، وأرشيف الكاتب ممدوح حمادة والمخرج الليث حجّو معاً، في جزئي «ضيعة ضايعة» و«الخربة» و«ضبوا الشــناتي»، حين عولجت أسباب وبدايات الأزمة السورية، ومن ثم معاناتها. إنجازات كافية لاستمرار مشاهدة، لكان يخسرها بمعظمها أي عمل لصناع آخرين، ووافية أيضاً لملاحظة أن إبداع حمادة، يرتبط في الدراما بالمجتمعات الإنسانية الدقيقة التي يؤسسها في قصصه، ما يوضح بدء تصاعد المستوى في العمل الذي يحاكي انتهاء الأزمة والحل المقبل، بالتزامن مع اكتمال بناء أساس القرية ووضوح ملامح مجتمعها أكثر على جزيرة «الواق واق»، حيث تصل 17 شخصية تمثل أبرز شرائح المجتمع السوري، والعربي على حد سواء، هرباً من واقع الوطن المليء بالظلم والفساد وانــعدام الفرص والحرب... 

تسير الحلقات الأولى ببطء، نجاة من غرق السفينة، وهم الوصول إلى أميركا، الأمل بالخلاص، تعمير القرية، ومن ثم إدارتها، في صيرورة ساخرة تقابل عملية بناء المجتمعات، والصراعات بين أفرادها، لتصل إلى جواب حول جدلية مكمن علّة الفساد أصلاً: هل هم الناس أو الزمان والمكان؟ إذ أمام السكان فرصة «التطهر» من الشر على أرض جديدة. وتكتفي لمدة طويلة أكثر من اللازم، بالتعريف بالشخصيات، وملامحها الدرامية الذاتية، وترسيخ لأزماتها، بعضها جمل طويلة جداً، لدرجة تصيب بالملل والاستفزاز على حد سواء، على رغم قاموس الكلمات الخاص والمتناسب مع كل منها. مسار قائم على سرد كوميدي أكثر من الموقف، مع كل ما يحمله من رسالات سياسية واجتماعية مثل «التربية القومية الشعب كله شبع فيها فلقة ولم يتعلمها»، و «المساعدات الإنسانية تسمم والوطنية تسبب كتام»، و «انت ليش ما كنت أحمد»، تقول «بتول» لـ «وارطان»، بسبب عدم زواجهما لاختلاف دينيهما.

في بناء الشخصيات، سوريالية واقعية بما للمصطلح من تناقض. «طنوس سيخ البحر»، قبطان سفينة هو من يغرقها، ولا يميز بين الشرق والغرب. و «مارشال دوبل ركن عرفان الرقعي»، قائد عسكري هارب لا يستطيع المحافظة على بنطاله، ولا يملك في سيرته انتصاراً واحداً. وتمثل شخصيات أخرى تيارات بارزة، كالرأسمالية بـ «الدكتور معيط»، واليسارية عبر «رشوان»، والدينية الراديكالية من خلال «تيسير»، والشعبية البسيطة بـ «أبو دقور». ولكن المعالجة الأكثر شجاعة تكمن في التطرق إلى مفهوم الدفاع عن حقوق المرأة، بفهم المدعي والسطحي عبر «المحامية سناء زبلطاني»، بما يمكن أن يجلبه الأمر من «وجع رأس». جميع الشخصيات رموز واقعية في شكل بديهي وواضحة الشيفرة وفق ما يقصد الكاتب بالطبع، فالأحداث تخطت كل مبطن، إلّا أن العمل ينتقل الى الرمز داخل الرمز أحياناً، خصوصاً في حالة «وديع» و «صفا». ضابط أمن وإرهابي مطلوب للعدالة، مقيدان بسلسلة حديدية واحدة، يدعي كل منهما أنه رجل القانون. حوارات الشخصيتين وحركاتهما، تظهر أن ما يمثلانهما وجهين لعملة واحدة، يقتات الأول على الثاني، يحملان بعضيهما على ظهريهما، ولا يتحمل احدهما دفن الآخر. أداء وتناسق رائع بين محمد حداقي وأحمد الأحمد.

وتلتقط كاميرا حجّو كل هذه اللحظات بإيفاء كامل تفاصيلها حتى البسيطة، كبرقة عيني «معيط» عند استشعاره بأي باب جديد للاستفادة المادية. وتتميز بالاستفادة من الطبيعة الخالصة بين الشجر والبحر، في بناء جمالية الصورة التي استغل من أجلها حجّو، مواقع خارجية تقفل باب التكرار في المكان الواحد. لقطات كثيرة على الشاطئ مثلاً، تقريباً لا إعادة فيها. وأبرز ما يحققه المخرج السوري في العمل، قدرته على الإحاطة بعدسته 17 شخصية فاعلة حواراً وحركة في بعض المشاهد، بإيفائها كامل حقها، بما في الأمر من صعوبة.

من حيث الأداء، يختار بعض الممثلين الفارس، كباسم ياخور (كابتن طنوس)، يثبت خبرته في التحكم بالأداء إلى الدرجة المطلوبة من دون زيادة منفرة، لا سيما في استخدام لازمات الشخصية، وإيصالها كـ «مع احترامك إلي»، على عكس ما فعلته، من دون مقارنة، في البداية سوزانا الوز (رولا) في الثلث الأول من المسلسل بلازمة «بافاروتي». ويسقط رشيد عسّاف في فخ تركيبه «كراكتير» «المارشال عرفان» فوق أساس طبيعي استخدمه سابقاً، يثبته حركات مكررة من شخصية «أبو نايف» في «الخربة»، من دون أن يسلب ذلك متعة أدائه. وتبدو شخصية «أبو دقور» (جمال العلي) الأكثر رشاقة وظرافة، خصوصاً إيفيهات «كرجية»، أدواته اللفظية فضيلته، بينما يبرز وائل زيدان مجدداً موهبة درامية لم تأخذ حقها. عينا شكران مرتجى (سناء زبلطاني)، كل جارحة فيها، تخبران عن ممثلة تشبه «النبع» لا «الجمع»، في مشهد نشيد «موطني» أمام العلم الذي يقطع السوريون من أجسادهم ليحيكوه. مشهد يثير المشاعر، كالنشيد المرتبط بالوجدان العربي والسوري تحديداً، ولكن الخطأ يلبس منشديه من «الراس إلى الساس»، ويشبه مشهداً تكرر واقعياً في حانات العاصمة اللبنانية بيروت، كلما تم إنشاد «موطني» في آخر السهرات. على الأرجح أن يبدأ منذ اللحظة، التحضير لفكرة أن الوطن ليس حقيبة، وأن الرجوع محتوم. لإنصاف العمل، لربما لم يقصد الكوميديا بمقدار ما يريد عبارة شيشرون: «تقليد للحياة، ومرآة لما هو عار، وصورة للحقيقة». عمل يستحق المشاهدة لمحبي الهدوء.