'ألف ليلة وليلة'...تهذيب وتنقيح لا ينتهيان!

محمد سلماوي, عبد المجيد محمود, بلاغ, حكم قضائي, الكتاب والأدباء, جائزة الشيخ زايد للكتاب, كتاب ألف ليلة وليلة

27 مايو 2010

من جديد يعود كتاب «ألف ليلة وليلة» إلى الواجهة مثيراً عاصفة من الجدل. البداية هذه المرة كانت من خلال بلاغ تقدمت به مجموعة من المحامين المصريين تطلق على نفسها مسمى «محامون بلا حدود» أخيراً إلى النائب العام المصري المستشار عبد المجيد محمود، تطالب فيه بمصادرة طبعة من الكتاب الأشهر في الأدب الشعبي العربي، صدرت في مجلدين ضمن سلسلة «الذخائر» عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، ومحاكمة رئيس الهيئة نفسها الدكتور أحمد مجاهد، ورئيس تحرير السلسلة الروائي جمال الغيطاني، بدعوى «إهدار المال العام في نشر عمل يزخر بالمقاطع الجنسية الخادشة للحياء. البلاغ استنفر هيئات عدة بعدما أعاد إلى الأذهان دعوة متطرفة انطلقت في منتصف ثمانينات القرن الماضي، وطالبت بحرق «ألف ليلة وليلة» واستندت أيضاً إلى إباحيته المزعومة، لكنها سرعان ما طويت بحكم قضائي صدر في بداية العام 1986 يؤكد رفض مصادرة هذا العمل الذي ترك بصمة واضحة في الأدب الإنساني، بل امتد أثره عالمياً إلى فنون أخرى مثل المسرح والموسيقى والفن التشكيلي والسينما.
 لكن هل سيصل الأمر هذه المرة إلى منصة القضاء، أم سيأمر النائب العام المصري بحفظ البلاغ؟ على أية حال فإن «محامون بلا حدود»، التي تتألف من عدد من المحامين الساعين غالباً إلى الشهرة أبدت استعدادها لسحب البلاغ في حال الموافقة على حذف ما في «ألف ليلة وليلة» من مقاطع «تخدش الحياء»، وهو الأمر الذي قابله الدكتور أحمد مجاهد بالرفض التام على اعتبار أنه «لا يحق لأحد إدخال تعديلات على عمل تراثي».
إلا أن الثابت هو أن حكايات «ألف ليلة وليلة» خضعت لعمليات «تنقيح وتهذيب» عدة منذ طبعها باللغة العربية للمرة الأولى في ثلاثينات القرن التاسع عشر الميلادي في «مطبعة بولاق» في القاهرة «تسمى حالياً دار الكتب»، في حين أنها لم تمس في أي لغة أخرى منذ أن عرفها العالم عبر ترجمتها إلى الفرنسية في عام 1847. وهذه الحكايات التي ترويها امرأة يطلق عليها «شهرزاد»، لملك يدعى «شهريار» لتلهيه عن رغبته في قتلها وقتل غيرها من النساء هي حكايات مختلف على أصلها: هل هو هندي أم فارسي؟ وهناك كذلك غموض حول ظروف «تعريب» تلك الحكايات ونسخها بعدما ظلت تتداول شفهياً لقرون عدة. ويرى الروائي جمال الغيطاني أن حكايات «ألف ليلة وليلة» خضعت أيضاً لـ«التمصير» عبر المخيّلة الشعبية، وأن القاهرة القديمة التي ولد ونشأ فيها واشتهر بولعه خصوصاً بحقبتها المملوكية، «تكاد تكون هي الترجمة المكانية الموازية لأحداث الليالي».
 ويضيف: «في تقديري أن بغداد المذكورة في هذا العمل ليست إلا القاهرة، ولكن واقع الحال اقتضى استحضار مكان بعيد يرتبط بمجد الحضارة العربية الإسلامية». ويؤكد الغيطاني أن الرواة كانوا يروون تلك الحكايات وغيرها من الملاحم الشعبية مثل عنترة بن شداد والظاهر بيبرس والسيرة الهلالية في مقاهي القاهرة العتيقة قبل اختراع المذياع.
وعلى أية حال فإن المذياع ساهم في انتشار أوسع لهذا العمل عندما قدمته الإذاعة المصرية في خمسينات القرن الماضي بنص أعده الشاعر طاهر أبو فاشا، وأدت فيه الممثلة الراحلة زوزو نبيل شخصية «شهرزاد» ببراعة، وذلك قبل تحويل حكايات عدة من العمل نفسه إلى مسلسلات تلفزيونية ناجحة.
من جانبه لا يخفي الروائي السوري خليل صويلح خشيته من أن يأتي يوم تُختزل فيه «ألف ليلة وليلة» نتيجة المحو المستمر وشيوع عبارة «نسخة منقحة ومهذبة»، إلى «مئة ليلة وليلة»، بوصفها «ضرباً من قصص الفتيان وحكايات الجدات قبل النوم وحسب، وزمناً كافياً لقطع عنق شهرزاد».

مستويات التلقي
وفي إطار رد الفعل عقد اتحاد كتاب مصر مؤتمراً تحت عنوان «ألف ليلة وليلة ومستويات التلقي»، دعا البرلمان المصري إلى إصدار تشريع يمنع محاكمة الإبداع. وصدر في ختام المؤتمر بيان أعرب فيه المشاركون عن الغضب الشديد «إزاء ما يحدث من هجمة شرسة تجاه الكتاب التراثي البديع «ألف ليلة وليلة»، وأعلنوا التضامن مع من شملهم بلاغ أولئك المحامين إلى النائب العام. وذكر البيان نفسه أن اتحاد كتاب مصر سيقدم بلاغاً مضاداً إلى النائب العام ضد هؤلاء المحامين، لوقوفهم ضد تراث وحضارة العرب والإسلام. وأكد أنه سيقف مع كل الكتاب والمثقفين الذين سيتعرضون لمثل تلك البلاغات، التي تستهدف ثقافتنا وحضارتنا وتاريخنا ومستقبلنا.
وأوصى المشاركون في المؤتمر، وفي مقدمهم مدير المركز القومي للترجمة الناقد جابر عصفور، والروائي جمال الغيطاني، والناقد أحمد مجاهد ورئيس اتحاد كتاب مصر الأمين العام لاتحاد الكتاب والأدباء العرب محمد سلماوي، بإعلان عام 2010 «عام ألف ليلة وليلة»، وحماية التراث والدعوى لإصدار تشريع يمنع التطاول على المبدعين ويمنع محاكمة الكتاب على إبداعاتهم الأدبية. وأوصى المؤتمر كذلك بدعم سلسلة «الذخائر» والإصدارات التراثية الأخرى، وزيادة المطبوع منها، وطالبوا بتدريس فصول من «ألف ليلة وليلة» في المراحل التعليمية المختلفة، والدعوة إلى مؤتمر قومي يتبناه اتحاد كٌتَّاب مصر والنقابات الأخرى المتصلة بالآداب والفنون والثقافة لمناقشة الدور الفعال للمثقفين في المرحلة المقبلة إزاء تلك الهجمة الشرسة التي تتربص بالإبداع والمبدعين. وأوصى المشاركون في المؤتمر كذلك بتعويض كل من رفعت عليهم قضايا حسبة من طريق اللجوء إلى المحكمة المدنية المختصة، على أن يتضامن معهم اتحاد كٌتَّاب مصر في هذا الأمر. 
 وكانت سلسلة «الذخائر» أصدرت الشهر الماضي «ألف ليلة وليلة» تصويراً من الطبعة التي نشرتها مطبعة بولاق أوائل القرن العشرين، بتحقيق الشيخ محمد قطة العدوي. ونفدت الطبعة الجديدة بمجرد طرحها في الأسواق، ووعد أحمد مجاهد بطبعها مجدداً متحدياً البلاغ الذي يطالب بمصادرتها ومحاكمة المسؤولين عن إصدارها. وأعادت هذه الواقعة إلى الأذهان وقائع عدة مشابهة، منها ما يتعلق بكتاب «ألف ليلة وليلة» نفسه عندما قررت محكمة استئناف مصرية رفض مصادرته في 30 كانون الثاني (يناير) عام 1986، ومنها ما يتعلق بكتب أخرى، مثل رواية «وليمة لأعشاب البحر» للكاتب السوري حيدر حيدر، والتي تظاهر طلاب في جامعة الأزهر العام 2000 مطالبين بمصادرة طبعة منها أصدرتها الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، بدعوى أنها «تتضمن ما يخدش الحياء ويسيء إلى الدين».