عاشق الآداب والفنون الكاتب المغربي نور الدين محقق: «المرأة ملح الحياة... والفرح هو سرّها»

إسماعيل فقيه (بيروت) 17 يونيو 2018

وُلد الكاتب المغربي د. نور الدين محقق في مدينة الدار البيضاء، وهو حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس في مدينة الرباط، وعضو في «اتحاد كتاب المغرب»  و«الجمعية المغربية لنقاد السينما»، و«اتحاد كتاب الأنترنت العرب»، إضافة إلى عضويته في جمعيات ثقافية مغربية وعربية ودولية أخرى. له كتابات عدة منشورة، تتعلّق بمجال التواصل الفني (مسرح، تلفزيون، سينما، إشهار، تشكيل) باللغتين العربية والفرنسية، إلى جانب مقالات متنوعة في الصحافة العربية.


التقينا الكاتب نور الدين محقق وبدأنا حديثنا بسؤال التعارف، وسرعان ما طال الحديث وتنوّع الكلام حتى بلغ فيضان الصورة والمعنى، فتشكلت أو اكتملت السيرة الذاتية للكاتب. قال الكثير، وأسهب في الحديث عن الحياة والإنسان والكتابة واللغة والحب... فماذا قال؟

«في الحياة أسرار جميلة يحافظ الإنسان عليها ويتركها تسري في ثنايا أفكاره، منها ما يرتبط بأسلوب عيشه وطرقه في التعامل مع الناس والأشياء، ومنها ما يتعلق بعزلته وكيفية تدبيرها حين يكون كاتباً وعاشقاً للآداب والفنون ومحبّاً للعيش بالقرب منها. هي أسرار صغيرة ترتبط به وحده، ولا تتعلق بسواه. قد يحب البوح بها أحياناً لبعض أصدقائه، وفي أحيان أخرى يفضّل كتابتها في دفتر ذكريات، ذلك الدفتر المرتبط به أشد ارتباط.

 من هنا يأتي السؤال عميقاً، كيف أعيش؟ لأجيب بأنني أعيش حياتي الخاصة كما أحب. فأنا مولع منذ الصغر بعوالم الكتب وما يحيط بها. أقرأها باستمرار وأغوص في عوالمها  وأحب أن أكتب عنها دائماً. كما أنني شغوف بعالم السينما منذ أن كنت يافعاً، ولا يزال هذا الشغف يسري في كياني. علّمني أبي حب السينما وكيفية مشاهدة الأفلام السينمائية بشكل دائم، كما غرس فيّ حب الكتب وقراءتها، وربما كان سبباً في أن أصبح كاتباّ، يحب الآداب ويعشق الفنون الجميلة.

في صغري، تعرفت على مكتبة أبي التي كانت موجودة في غرفة منعزلة مبنيّة على سطح بيتنا العتيق. كانت الغرفة تبدو لي مليئة بالألغاز، والكتب مبثوثة في كل أركانها. في هذه الغرفة تحديداً قرأت كتاب «ألف ليلة وليلة»، وسِيَرَ كلٍّ من «سيف بن ذي يزن» و«حمزة البهلوان» و«عنترة بن شداد». لطالما تردّدتُ على هذه الغرفة وقرأت الكثير من الكتب التي تحتوي عليها. لا أظن أنني تمكنتُ من قراءة كل الكتب، فالبعض منها كان مستعصياً على فهمي في ذلك الوقت، وبعضها الآخر لم يكن يروقني بتاتاً.

 شدّتني بعد ذلك كلٌ من ملحمة «الإلياذة» و«الأوديسا» للشاعر الشهير هوميروس حيث وجدتهما في المكتبة ذاتها. كانتا معاً في ترجمة عربية مثالية. قرأتهما بشغف كبير وأعجبتُ كثيراً بالبطل «أشيل»، كإعجابي بالبطل «أوديس». ولا يزال حب هذه الكتب متربّعاً في قلبي إلى اليوم.

ربما كان «ألف ليلة وليلة» أول كتاب قرأته في نسخة مهذّبة خاصة بالأطفال، نسخة جميلة موزعة في أجزاء عدة ما زلت أحتفظ بها لحدّ الآن، فهي هدية من أبي الراحل عبد الكبير محقق، وأول كتاب يُهدى إليّ في عيد ميلادي العاشر. كما كان فيلم «سارق الدراجة» أول فيلم شاهدته بصحبة أبي، وأنا بعد طفل صغير، وهو من إخراج الإيطالي فيتوريو دي سيكا، وقد ظلت أحداث هذا الفيلم الإيطالي الجميل راسخة في ذهني إلى اليوم.

 «عاشق غرناطة العربي» كان أول كتاب شعري ألّفته. لقد أحببتُ كثيراً مدينة غرناطة حين زرتها للمرة الأولى عام  1982 إذ كنت طالباً جامعياً في فرنسا، وقرأت الكثير عنها بعد ذلك. لم يُنشر هذا الكتاب الشعري الذي انتهيت من كتابته عام 1984 إلا في عام 2014 حيث ظل مخطوطاً مركوناً في مكتبتي، حتى ألحّ عليّ الكثير من الأصدقاء لنشره، لا سيما أنّ أغلب قصائده كانت منشورة في الصحف المغربية والمشرقية على حد سواء. وفور صدور هذا الكتاب الشعري لاقى ترحيباً كبيراً، خصوصاً وقد تولّت ترجمته إلى اللغة الفرنسية الأديبة والمترجمة المغربية رجاء مرجاني، وإلى الإنكليزية الأديب والمترجم المغربي مراد الخطيبي. أما أول كتاب نُشر لي فهو كتابي القصصي «الألواح البيضاء»، عام 2006. بعدها أصدرت مجموعة من الكتب باللغتين العربية والفرنسية، أذكر منها في مجال السرد الروائي والقصصي: «وقت الرحيل» و«بريد الدار البيضاء» و«إنها باريس يا عزيزتي» و«شمس المتوسط» و«زمان هيلين» و«وشم العشيرة» و«النظر في المرآة»... وفي مجال الكتابة الشعرية: «العابر في الليل إلى مدن النهار» و«أيتها الجميلة بين النساء» و«غادة الكاميليا» و«مزامير أورفيوس» و«مديح الموناليزا». أما في المجال النقدي فأذكر كلاً من «نجيب محفوظ وشعرية الحكي» و«أدونيس وشعرية الكتابة» و«شعرية النص المرئي» و«السينما وشعرية الصورة» وغيرها. كما ترجمت مجموعة من كتبي الإبداعية إلى بعض اللغات العالمية مثل الفرنسية والإنكليزية والإيطالية.

 كنت أقرأ بنهم، وأكتب خواطري حول ما أقرأه من جهة، وما أعيشه من جهة ثانية. كتبتُ في البداية الشعر، ومن ثم تحوّلت الى كتابة القصة والرواية، وجرّتني الرواية بقوّة إلى عوالمها. هكذا أصبحت الكتابة رفيقة دربي التي لا أستطيع فراقها.

 أحب تأمّل البحر كثيراً، وأعشق النظر إلى أمواجه وأزوره باستمرار. أجلس غالباً في المقاهي المطلّة على البحر وأفضّل القراءة فيها. لكن حين أرغب في الكتابة، أنزوي في ركن من مقهاي المفضل، القريب من بيتي، وأبدأ في الكتابة. حين تأخذني الكتابة إلى عوالمها البهية، أنسى نفسي والوقت. المقهى شكّل لي ملاذاً ثقافياً بامتياز، وله فضل عليّ في كتابة أغلب كتبي. في البيت أنكبّ ليلاً على القراءة، فالليل يناسب مزاجي ويجعلني أحتمي بعوالم الكتب فيه. للقراءة في الليل متعة لا تُضاهى.

في المقهى كنت في السابق أفضّل شرب الحليب الساخن بالنعناع على طريقة الفيلسوف وعالم اللّسانيات الأميركي نعوم تشومسكي، لا سيما في الصباح. أما اليوم فأكتفي بارتشاف فنجان من القهوة السوداء وتدخين سيجارة واحدة فقط قبل البدء في الكتابة. لم أعد أدخن بشراهة. لقد أقلعت أخيراً عن هذه العادة السيئة.

 أحب ممارسة رياضة المشي. أنا كائن رياضي بامتياز، أعبر المسافات الطويلة ولا أتعب. ربما يتعب الطريق مني قبل أن يصيبني التعب. في المشي أحقق وجودي الرمزي، أمشي وأفكر، كما كان يفعل المعلّم الأول أرسطو.

 في كتاباتي الإبداعية تحضر المرأة ببهائها. لا وجود لكتابة رائعة بدون المرأة، فهي ملح الحياة، لكن حضور المرأة لا يأتي من أجل الزينة، وإنما يولد من أعماق التفكير في كنه الحياة والتعبير عنها. كذلك يحضر الفرح، فالفرح هو سر الحياة وتوأم معاكس للحزن. كلاهما يُطهّر النفس البشرية ويمنحها أسراراً جديدة. كتاباتي تميل إلى التأمل الفلسفي في الحياة. فكلما كانت الكتابة عميقة، بدت جميلة. الجمال هنا لا يعني المظهر الخارجي فحسب، وإنما يعني أيضاً البعد الجميل الذي يسكن دواخلنا.

 كلما انتهيتُ من تأليف كتاب ونشرته، شعرت بالسعادة. الكتاب هو امتداد مادي وروحي لكاتبه. تشعر وأنت تنشر كتاباتك كأنك قسّمت جسمك وروحك الى أجسام وأرواح كثيرة، فيصبح كل قارئ بالضرورة جزءاً من كيانك الرمزي.

 أميل كثيراً إلى عالم خورخي بورخيس وأحبّ كتاباته، وأثّر فيّ عبد الكبير الخطيبي، سواء في تنوّع اهتماماته الفكرية والجمالية أو طريقة تفكيكه للكلمات والأشياء. كما تأثّرت بعبد الله العروي وهو يغوص في عوالم الفكر والأدب معاً، وأذهلني عبدالفتاح كيليطو وأجدني قريباً منه... كتبتُ عن هؤلاء الأساتذة الكبار بكثير من المحبة والإعجاب.

 أحَبُّ كاتب روائي إليّ هو فيودور دوستويفسكي، وأعتبره معلّمي الأول، فقد قرأت كتاباته وأنا بعدُ يافع وما زلت الى اليوم أعيد قراءته باستمرار وأستفيد منه.

 طبعاً قرأت لمعظم الكتّاب العرب والغربيين، شعراء وروائيين من فيكتور هيغو إلى ستيفان مالارميه، ومن جان بول سارتر إلى جاك ديريدا، ومن جبران خليل جبران إلى نجيب محفوظ، خيري عبدالجواد، ومن بدر شاكر السياب إلى أنسي الحاج، ومن شوقي أبي شقرا إلى إسماعيل فقيه وصباح خرّاط وجمانة حداد... لكن في الوقت الذي أقرأ فيه بكل هذا الشغف، أحرص على أن أبقى أنا وأن تكون كتاباتي شبيهة بي لا بأحد غيري. فبنات أفكاري هي بناتي أنا.