إسطنبول لقاء الحضارات والثقافات في حكايات السياحة والتسوّق والموسيقى

ميشال زريق (اسطنبول) 24 يونيو 2018

أصبحت اسطنبول في السنوات الماضية، من أكثر الوجهات التي يقصدها السيّاح لتمضية إجازات الصيف أو الأعياد أو العطل القصيرة، هرباً من ضغوط العمل والحياة اليومية، فتصبح شواطئها مَخرجاً وملاذاً يلجأون إليه بحثاً عن هواءٍ نقي ورمال ذهبية وشمس ساطعة، وتصبح أسواقها وشوارعها، ساحاتٍ لذكرياتٍ وحكاياتٍ ومقصداً للتسوّق والنزهات.

موسيقى في كلّ مكان
ولكن، أن تختبر زيارة تركيا خلال شهر رمضان أو مع اقتراب عيد الفطر، فحكايةٌ أخرى، لأنّك ستعيش أجواء التحضير للعيد والشهر الفضيل بتفاصيلها، بدءاً من الشوارع المكتظّة بالزوار والسكان خلال النهار والـ Tram الذي يخلو تدريجاً من الركّاب مع المغيب استعداداً للإفطار، فيعود وينبض بالحياة بعد الأذان والإفطار، وتنتعش الأسواق والساحات بعزفٍ وأداءٍ للأناشيد الدينية والتراويح، التي يحرص الكثيرون على أن يملأ صداها الشوارع، بالتزامن طبعاً مع عزف بعض المارّة والـ Street Musicians، فتشهد من هنا على لقاء الحضارات والثقافات بدءاً من الشارع، ووصولاً الى هندسة البناء والأكل والتفكير وحتى الآثار... فتكون زيارتكَ إلى تركيا دليلاً لكلّ ما تريد أن تعرفه عن لقاء الحضارات.

الفن الأذربيجانيّ
في اسطنبول، من المهم أن تختار المكان الذي ستبيت فيه، لأنّ في كلّ بناءٍ أسراراً كثيرة وفي كلّ شارعٍ حكاية، ولعلّ المبيت في فندق Ajwa، والمستوحى اسمه من كلمة «عجوة» أو بذرة التمر، هو أكثر ما يجعل الرحلة إلى تركيا لا تُنسى، ففيه مزيج من الحضارة الأذربيجانية التي نقلها مؤسّسه وصاحبه، مع الحضارة الإسلامية العريقة، ومنحوتاتٌ من مصر وبلاد الشام وعدد من الدول الإفريقية.
موقع Ajwa مميّزٌ جدّاً، فهو على مسافة قصيرة من العديد من معالم اسطنبول الساحرة في منطقة السلطان أحمد أو المناطق المجاورة، مثل قصر توب كابي، ودولما باهجة وبرج غلاطة وحتى شارع الاستقلال، ويمتاز بغرفٍ فاخرة ذات تصميم كلاسيكي عثماني، مطعّم بلمسات ثقافية وفنّية خلّفتها الإمبراطوريات المتعاقبة والفتوحات في تركيا، بتوقيع فنانين عاشوا اسطنبول وعاصروا تاريخها، ويتفرّد أيضاً بالأثاث العربيّ والنقوش اليدويّة بعرق أم اللؤلؤ، ناهيك عن الاستقبال بالتمر والحلوى التركية وماء زمزم ترحيباً بالضيوف، ما يجعله وجهةً مثالية لمحبّي الفنادق الإسلامية الفاخرة.
بين الطابع العثماني والأثاث الخشبيّ والعطور العربيّة المنبعثة في الأروقة، تعيش تجربةً مميّزة لتصل إلى مطعم «زعفران» في الطابق الأخير، والذي يُقدّم مختلف الوجبات التركية وأخرى أذربيجانية تقليديّة، فلا بدّ من تجربة عشاءٍ في ليالي صيف تركيا، لأطباق الدجاج المتبّل على الطريقة التقليدية أو الدولمة واللحوم المقدّدة، ومنظرٍ مطلّ على بحر مرمرة من جهة وعلى المساجد في السلطان أحمد من جهةٍ أخرى، والتي تبدو قبابها المضاءة منارةً لمحبّي النزهات في الليل.
وإن لم تجرّب الحمّام التركي التقليديّ، فهذه فرصة لا تفوّت لاختبار هذا النشاط والذي يُعدّ الأكثر شهرةً حول العالم، ولا يقصد السيّاح تركيا من دون الخضوع لعلاجات الحمّام التركي، والذي يُقدّمه Ajwa بأسلوب عصري مختلف، محافظاً على هندسة الحمّام التركي التقليدي والرخام الحراري إنّما بالاستعانة بتقنيات التدليك الحديثة والزيوت المعالِجة، والصابون التركي الذي تستطيع أن تشتري مثيلاً له بحليب الماعز أو اللافندر أو حتى زيت الزيتون والأرغان من متاجر السوق المسقوف.

آثارٌ وقصور مدهشة
وبما أنّ Ajwa كان قريباً من عدد من المنشآت السياحية في سطنبول، وتحديداً السلطان أحمد، فكان لا بدّ من نزهةٍ صباحية الى مسجد ومتحف آيا صوفيا والمساجد المحيطة، مروراً بساحة المسلّات وهي واحدة من الساحات الأكثر أهمية في اسطنبول، بُنيت في القرن الثالث حيث كانت مركزاً للرياضة والثقافة، وميداناً لسباق الخيل، وتستوقفكَ الآثار من العهد البيزنطي كالأعمدة والنوافير.
فلفت انتباهي تمثال Serpent Column البرونزيّ، وهو الأفعى التي يبلغ طولها 8 أمتار والتي أحضرها قسطنطين الكبير عام 324 إلى مكانها الحالي بعد أن كانت في ديلفي. وعلى بُعد خطوات من هنا، تجد النصب العمودي الذي شيّده الفرعون تحتمس الثالث وهو Theodosius Obelisk من الغرانيت الأحمر المستورد من أسوان ويبلغ طوله 30 متراً.
وكما تتغنّى تركيا بقصورها ومتاحفها الرائعة والمساحات المزيّنة بأفخر السجاد الفارسي والأوروبي، والقصور المليئة بمنحوتات الذهب والبورسلين الصيني وثريات الباكارا الفرنسي الفاخر والكريستال البرّاق، يتوافر فيها أيضاً معلمٌ هندسيّ أثري مدفونٌ تحت الأرض، معروفٌ باسم «قصر ياربتان» Cistern Basilica ويُسمّى بـ«القصر المغمور»، وهو الأكبر بين الصهاريج القديمة في اسطنبول، وتم بناؤه في القرن السادس، في عهد الإمبراطور «جستنيان» الأول، واستمد هذا الهيكل الجوفي اسمه من ساحة عامة كبيرة، وهي «بازيليكا ستوا»، التي شُيّدت أصلاً تحت الأرض قبل أن يتم تحويلها إلى خزان مزوّد بنظام تنقية للمياه، للقصر الكبير في القسطنطينية، وغيره من المباني الأخرى، واستمر في توفير المياه لقصر «توب كابي»، حتى العصر الحديث.
ولعلّ ختام هذه الرحلة، كان مع زيارة قصر «دولما باهجة» الذي يُعدّ أفخم قصور العالم وأكبرها، سكنه آخر 6 سلاطين عثمانيين، تناوبوا على إثرائه بالأثاث والمقتنيات والهدايا، وعلى زيادة مساحته وعدد غرفه، بعد أن عاش فيه السلطان عبد المجيد لمدة ستة أشهر فقط، إذ يتألف القصر من 293 غرفة، ويحتوي على 14 طناً من الذهب موزّعة بين جدرانه وأثاثه كديكورات داخلية، وثريا من الكريستال يبلغ وزنها حوالى أربعة أطنان.

في حبّ الأسواق
وفي الحديث عن الأسواق، لا بدّ من أن تعرّج في اليوم الأول على ميدان تقسيم، والذي يشهد يومياً على توافد آلاف الزوار من حول العالم، فلا بدّ من أن تجد ما تبحث عنه في المأكل والملبس وحتى التذكارات، أو حتى إن كنتَ تبحث عن المناظر الجميلة والتأمل في الهندسة المعمارية.
وأسوةً بأكبر المدن حول العالم، متحف الشمع Madame Tussauds يفتح أبوابه يومياً لمحبّي تماثيل الشمع لأكثر من 60 شخصية عالمية معروفة، مقدّماً مزيجاً من الثقافات والشخصيات الفنّية والسياسية والتاريخية، مقلّباً صفحات السلطة العثمانية مع تمثال السلطان سليمان القانوني وصولاً إلى تمثال مصطفى كمال أتاتورك مؤسّس الجمهورية التركية.
ولا يمكن أن تزور تركيا من دون أن تخصّص كما فعلنا، يوماً كاملاً لزيارة السوق المسقوف أو المعروف باسم Grand Bazaar، والذي تعثر فيه على كلّ ما تريد.
هذا السوق الذي تطلّب بناؤه 30 عاماً، يضمّ 60 شارعاً فرعيّاً وأكثر من 400 متجر، وما قد يستوقفكَ هو الفن المعماري القديم الذي لا يزال السوق يحافظ عليه، وكذلك متاجر بيع السجاد المحبوك من الحرير والصوف، وحتى المجوهرات بتصاميمها التقليدية. ولا بدّ أيضاً من زيارة السوق المصري في اسطنبول، وهو يُمثّل التزاوج بين الثقافتين الفرعونية والعثمانية، مقدّماً مروحة واسعة من التوابل والأعشاب والمصنوعات اليدوية. هنا تتداخل الألوان ببعضها مع الروائح الزكية وروائح أطباق المطبخ التركي التقليدي والحلويات.