بين اللون وعدمه: الأسود يحتكر المشهد!

باريس-نجاة شحادة 07 يوليو 2018

رغم وصفه بالمعتم والحزين والممل، يكاد اللون الأسود يكون «سيد الألوان». ليس لأن حضوره يشكل علامة فارقة في الخارج والداخل، بل لأنه يعيش خارج الزمن وخارج مواسم الموضة وفوق كل المعايير والتصنيفات. ربما قدرته على منح العناصر والأمكنة كثافة غامضة، منحته تلك الخاصية والخصوصية في المشهد الزخرفي.

مطفأ أم لامع، فوق الجدران أو الأرضيات، في الداخل كله أو في لمسات صغيرة منه، يبقى الأسود لوناً لا زمنياً ومفعماً بالأسلوبية. 
بالطبع، لا يمكن تجاهل التأثير الكبير الذي أنتجته التوصيفات «السلبية» للون الأسود، كما لا يمكن استبعاد الدور الذي لعبته «التقاليد» في تأطيره ضمن  حدود ضيقة واستخدامات معينة. غير أن المؤكد ومن خلال قراءة متأنية للمشهد الزخرفي المعاصر، سنجد أن معطيات كثيرة، على علاقة باللون الأسود، قد تغيرت وتبدلت مما أتاح لهذا اللون العودة وبقوة الى أرض الواقع العملي والجمالي، بل إنه في بعض الأحيان يتمدد على مجمل المشهد الزخرفي ليصبح «سيد المكان».
القول إن استخدام اللون الأسود هو أكثر صعوبة وتعقيداً من كل الألوان في التنسيق الداخلي، ليس فيه أي مقدار من المبالغة، ذلك أن مثل هذا القرار يتطلب، إضافة الى الجرأة والدراسة المعمقة، تجربة وتمرساً في التعامل معه، تجنّباً للوقوع في فخه الذي يمكن أن يقود الى نتائج بالغة السلبية وباهظة التكاليف. وربما من أجل ذلك، نجد أن اختيار اللون الأسود لداخل المنازل أو الشقق يكاد ينحصر في نخبة لها أذواقها الجمالية الخاصة، ومعاييرها التي تحول المكان الى «كائن» أكثر مما هو أبعاد ومساحات وأحجام. وتجدر الإشارة هنا الى أن ذلك لا يعني محدودية انتشار اللون الأسود وصلته بكل الأساليب والطرز وتآلفه مع كل التيارات والاتجاهات... ولذلك سنجده في كل «موقع» يحمل توقيع  كبار المصمّمين والمبتكرين.
ما يلفت الانتباه بدايةً هو تناغم الأسود مع المواد بكل تنوعاتها، ومنحها زخماً جمالياً آسراً، فهو يتألق مع الرخام والأخشاب والمعادن ولكنه أيضاً يمنح غموضه المبهر للزجاج والكريستال والجلود والأقمشة بكل تراتبياتها. والمروحة التي تتوافر لكل هذه المواد بلونها الأسود ومشتقاته تعطي فرصة رائعة لخيارات فريدة تجعل من الداخل أمكنة تلبي كل الرغبات وتراعي كل الأهواء والهوايات أيضاً. وفي كل مراحل استخدام الأسود في المشهد الزخرفي الداخلي، ينبغي الأخذ في الاعتبار عناصر المشهد الأخرى والتي تعتبر من أساسياته، كالإضاءة مثلاً، أو أحجام الأثاث والأكسسوارات المختلفة. وطواعية اللون الأسود في توليد أجواء تناسب كل الأمزجة، تكاد تكون فريدة في انفتاحها على كل الطبائع والعادات، فهو لون رزين متزن حين نطعّم به عناصر المكان أو مساحاته، وهو واقعي معتدل حين يمنح العناصر المجاورة فرصة الحضور المؤكد، وهو لعوب حين تأخذ عناصره مواقع غير منتظرة، كما أنه غامض حين يحتل فضاء المكان ومساحاته.
واللون الأسود يمكن أن يتحول الى «سفير» للحداثة الزخرفية، كما يستطيع أن يكون «ممثلاً» لائقاً للتقليدية. على أن المسألة هذه تحددها الخيارات الأخرى التي تعتمد على مرجعيته كلون أساس، يكون حضوره ضرورة ليس فقط من أجل تكثيف الدلالات ولكن من أجل تمتين هيكلية المشهد والعلاقة بين عناصره.
بالتأكيد، اللون الأسود يتواءم مع كل الأساليب الزخرفية مثل: المعاصر والريفي والاسكندينافي والحديث والصناعي وغيرها، وحضوره فيها يكاد يشكل علامة فارقة في تحديد الأجواء ومنحها خصوصياتها. وإذا كان البعض يبرر انسجامه أكثر مع الأسلوب الصناعي، ذلك أن الأسود تزامنت عودته القوية مع بداية انتشار هذا الأسلوب، وبالطبع يعود لـ«اللوفت» الدور الكبير في تكريس هذه العودة وبروزها منذ بداية ستينيات القرن الماضي، وإن كانت تجد مرجعياتها الرئيسة في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته.
واللافت في هذا المجال دخول اللون الأسود الى كل المساحات والأركان والزوايا في المنزل أو الشقة. بمعنى آخر، لم يعد من المستغرب أن نجد اللون الأسود يغزو الصالونات أو صالات الطعام أو غرف الجلوس، ولكن الأكثر غرابة أن نجده يتسلل الى غرف النوم أو الحمّامات وصولاً الى المطابخ. وهكذا أصبح من الممكن التعامل معه، ليس كعنصر ثانوي أو مكمّل للمشهد الداخلي، بل كعنصر أساسي وربما رئيسي تحتضنه الفضاءات المتعددة وتحدد على مداه قيمها الجمالية والعملية.
أما عن علاقة اللون الأسود بالألوان الأخرى، فهذه المسألة هي الأقل تعقيداً خلال التعامل معه، ولعلنا جميعاً نعرف أن الأسود ليس لوناً مستقلاً بذاته، وإنما – وهذا مثبت علمياً – نتيجة انعدام الألوان، ولذلك سيكون من السهل مزاوجته مع أي لون آخر، وهو هنا يلعب دور الداعم لمروحة الألوان على اتساعها. وربما أكثر من ذلك فهو يبرز خصائص الألوان المجاورة له ويمنحها حضوراً بارزاً ربما لا يتأهل لها عند استخدامها منفردة أو مع ألوان أخرى. فالأحمر – مثلاً – بجانب الأسود نجده يكتنز إشعاعه الأولي ويتحول الى «كيان» قانٍ مكثف بتأثيرات يفتقدها فيما لو تم استخدامه الى جوار ألوان أخرى. وكذلك الأمر مع كل الألوان الأساسية ومشتقاتها اللامتناهية.
وفي الختام، لا يمكن الكتابة عن الأسود من دون الالتفات الى علاقته بالأبيض. وهذه العلاقة تتعدى التضاد العادي لتصل الى درجة التكامل في التضاد، فاللون الأبيض، من بين كل الألوان، لا يحتاج الى دعم الأسود لإظهار نصاعته ونقائه، بل ربما يكون العكس هو الصحيح، بمعنى أن الأسود هو الذي يستفيد من مجاورة الأبيض له. ولا أعتقد أننا نجهل سنوات الأسود والأبيض في التصوير الفوتوغرافي أو السينما وصولاً الى التلفزيون.