'حيوات أخرى' لإيمان حميدان

حربي العامري, السفارة الباكستانية في بيروت, كاتبة, شخصية , الحرب الأهلية اللبنانية, رواية / قصة, قصة, قصة حياة, إيمان حميدان, جائزة الشيخ زايد للكتاب, دار الراوي

07 فبراير 2011

الكتاب: 'حيوات أخرى'

الكاتبة: 'إيمان حمدان'

الناشر: 'دار الراوي'، الطبعة الأولى


عندما تُصبح الحقيبة هي الوطن لا يعيش المرء حياة واحدة بل حيوات... هذا ما نخلص إليه أولاً بعد طيّ الصفحة الأخيرة من الرواية التي برعت إيمان حميدان في عنونتها «حيوات أخرى».
في رواية صاحبة «باء مثل بيروت مثل بيت» الجديدة يخرج المستقبل من بطن الماضي كما يُخرج الجنين من بطن أمّه، ويُنظَر إلى الحاضر بالالتفات إلى الوراء وكأنّ العودة هي رحلة الذهاب.
فمسار حياة الراوية- البطلة ميريام يتبّع إيقاعاً دائرياً يدلّ على الاختناق والموت، إذ أنّها تنتهي من حيث بدأت: بيروت.

بعد نشوب الحرب الأهلية هربت ميريام مع «عائلتها الناقصة»إلى أوستراليا، انتظرت أن يلحق بها حبيبها جورج إلاّ أنّه اختُطف وظلّ مصيره مجهولاً. تعرّفت بعدها إلى زوجها الطبيب الإنكليزي كريس الذي كان يُعالج والدها من الخبل الذي أصابه بعد استقرار الشظيّة في رأسه يوم وفاة ابنه.
بعد انتقال ميريام من أوستراليا إلى كينيا مع زوجها أكملت حياتها هناك كسائحة وليس كمهاجرة. فحقيبة السفر تضعها أمام الباب والثياب تنثرها بعد خلعها في أرجاء الغرفة كمن يُريد أن يعيد ارتداءها ليرحل أو بالأحرى ليعود. فهي لم تستطع رغم الهجرة القديمة أن تتصالح وغربتها أو أن تُصدّق فكرة الانتماء إلى وطن جديد وحضارة جديدة ولغة جديدة هي تتقنها وإنما لا تشعر بها.
الرواية التي تبدو في ظاهرها بسيطة وواضحة إنما هي في الواقع مغلّفة بالرمزية التي تُخفي وراءها عوالم أرادت الكاتبة أن تُشير إليها دون أن تشرحها واهبةً القارئ حريّة الغوص في تفاصيلها وفهم معانيها بالطريقة التي يُريد.

فالحب الجسدي الذي يحتلّ حيّزاً في رواية حميدان مثلاً وُظّف في شكل رمزي ليُجسّد ثنائية «اللالقاء» بين البطلة ووطنها البديل. ميريام، الشابة الدرزية التي انتقلت من بيروت إلى أوستراليا فجنوب افريقيا وكينيا لم تنجح يوماً في الانسلاخ عن «شرقيتها» ووطنها ولغتها التي قرّرت أمّها ناديا هجرها حتى لا تستحضر جرح الوطن الذي سرق منها وحيدها بسبب حروبه الطائشة كرصاصاتها، بل ظلّت ميريام متعلّقة بمسقط قلبها بيروت التي كانت تستعيد بحرها عند كلّ مدّ وجزر وتكتب بلغتها عند كلّ شعور جديد يُخالجها وتسمع أخبارها كلّ يوم خميس من صديقتها المقرّبة أولغا التي لم تترك لبنان رغم كلّ الأحداث الأليمة التي عصفت به.
إنّ غياب أكثر من عشرين عاماً لم يُغيّر شيئاً في هوية البطلة التي ظلّت تعيش حياتها في الخارج وكأنّها زائرة قد تهمّ بالرحيل عند أوّل فرصة.

أمّا زوجها كريس، فهو يستوعبها ويُلاطفها ويتودّد إليها دائماً إلاّ أنّها تنفر منه معلّلة ذلك باختلافه عنها ومللها من مخاطبته بلغة لا تُشبه لغة لسانها وقلبها وجسدها. وإنما بعد عودتها إلى بيروت تُقيم علاقة مع رجل أجنبي ذي جذور لبنانية يُدعى نور وتشعر بانجذاب كبير تجاهه، علماً أنّه قريب من كريس من حيث شكله وطوله ولغته وديانته. وبين الرغبة والفتور يكتشف القارئ أنّ تفاعل ميريام لا يقف عند الشخص بل عند المكان، فالبرودة التي تشعر بها تجاه كريس إنما هي انعكاس لعدم تفاعلها مع تلك الجغرافيا الجديدة التي لم تفلح في أن تكون جغرافيتها البديلة رغم محاولاتها بثّ روح «شرقها» داخل بيتها الإفريقي عبر صوت أسمهان الذي يصدح ليل نهار. أمّا الرغبة التي عاشتها مع نور في بيروت، فلم تكن إلاّ انجذاباً تعيشه مع بيروت نفسها حيث التقت حبّها الأول جورج وحملت منه جنيناً أجهضته لتُصبح عاقراً بعد ذلك مدى الحياة.

لا شكّ أنّ البطلة- الراوية هي المحرّك الأساسي للشخصيات التي تُعاني جميعها نواقص مختلفة الأوجه: فالأب «مجنون» والأم «صامتة» والحبيب «مفقود» والجنين «مُجهض» والصديقة أولغا «مريضة»، أمّا هي، فتُعاني نقصاً نفسياً يتمثّل بالشرخ الذي تعيشه بين ماضٍ متقّد وحاضر متجمّد. ولا شكّ أنّ هذا الشرخ الكبير نتج عن «الفقدان» الذي ربما يكون ثيمة الرواية الرئيسية. وتأتي كلّ هذه الخسارات التي تتمثّل بفقدان حضن الحبيب إلى حكمة الأب وحماية الأخ ونصائح الأم وحنوّ الجنين لتكرّس الفقد الأكبر: «الوطن».
إنّ الرواية العربية طالما ارتأت أن ترمز إلى الشرق بالرجل وإلى الغرب بالأنثى، إلاّ أنّ صاحبة «توت برّي» في روايتها الثالثة قلبت المقاييس، فجعلت من «الأنوثة» مثالاً للشرق و«الذكورة» مثالاً للغرب الذي لم تشعر بفحولته يوماً بعيداً عن أرضها.

في الخارج عاشت البطلة حيوات أخرجتها من تحت طبقات سميكة من الذاكرة لتحياها كحاضر، ولمّا قرّرت العودة إلى بيروت لتصنع حياتها الجديدة حال عقمها دون ذلك لتجد نفسها فجأة عاجزة عن إيجاد «حياة واحدة» بعدما اعتادت أن تعيش «حيوات». وزحمة الحيوات المتراكمة في ذاكرتها ولّدت لديها قلقاً فسرّته الراوية بالأسئلة المشككة التي لا تنفك عن طرحها على نفسها والآخرين: «بيروت... كم هي بعيدة الآن. كم حياة عشت مذ تركتها، فكرت وأنا أقفل الحقيبة الثانية وأجرّها لأضعها قريباً من باب المدخل. هل عشت حيوات عدّة أم حياة واحدة تكفي عدّة نساء؟»...
تكتب إيمان حميدان بلغة رشيقة متدفقة عذبة تتخلّلها تأملاّت فلسفية تلمع بسرعة الضوء، تترك وميضها وتمرّ دون أن تُشعرك بأي ثقل أو امتعاض.