Home Page

هالة كوثراني: 'علي الأميركاني'...

هالة كوثراني, حربي العامري, دعم الأهل, رواية / قصة, فقدان السيطرة, المكتبة العامة, الرموز البصرية, براءة إختراع

27 ديسمبر 2011

لا أصوات للرشق. ولا رائحة للبارود... لا دخان للمدافع. ولا أثَرَ للدماء. وإنما هي الحرب. ولا شيء غيرها. الحرب حاضرة بشدّة هنا. حاضرة في سيكولوجية الشخوص الذين عاصروها.
في
نظراتهم الشاردة. في متاهاتهم البعيدة. في أحلامهم المستحيلة. في صراعهم الداخلي. وأيضاً، في منفاهم الكبير.
تسوقنا
هالة كوثراني في روايتها الجديدة الصادرة عن «دار الساقي» بعنوان «علي الأميركاني» إلى العوالم النفسية لشخصيات أضاعت ذواتها في دوّامة الحرب. فبدت جميعها أشبه بـ «انعكاسات». أو بالأحرى ظلال.
صاحبة
«الأسبوع الأخير» و«ستوديو بيروت» تتجلّى بقوّة في شخصية الراوية والروائية شيرين. وشيرين تجد نفسها في علي. والأخير يجد نفسه في الشاعر الراحل رمزي خير.
الشخصيات
تتناسخ. كالدمى الروسية تتوالد الواحدة من بطن الأخرى. تتشابه في أشكالها. وتتمايز في أحجامها. تعدّدها وتشابهها يُفقدانها بريق البطولة المطلقة. لا بطل حقيقياً في هذه الرواية، سوى المكان.

المكان هنا هو الشخصية الأساسية. «البيت الكبير» هو شخصية زمانية. تقصده شيرين و«النسخة الرجالية» منها علي لاسترجاع زمانٍ مضى. ذكريات قضت. وأحلام بمستقبل أفضل. في ذاك البيت، يلتقيان. هناك يُخبرها علي بأيّامه وأحداثها العاديّة لتغدو في مخيّلة شيرين درويش استثنائية.

ضحيتا الحرب، علي وشيرين، يعيشان آلام منفاهما. الأوّل منفياً عن أمّه وأرضه ولغته في الجهة الثانية من العالم. والثانية تعيش في منفاها الداخلي مع حبّ قديم وحياة تقليدية رتيبة. فجأة، تُقرّر شيرين درويش أن تُعيد ترتيب حياتها. أن تُسيطر هي على أيّامها.
فتنفصل عن زوجها الذي ارتبطت به إرضاءً لرغبة الأهل. وعن البنت التي أنجبتها قبل أن تستعدّ لتكون أمّاً. وعن الأمّ التي وجدت في موت زوجها رحمةً له قبل أن يعلم بطلاق ابنته الوحيدة. في الواقع، طلاق شيرين لم يكن من زوجها. بل من الحياة المُحبطة التي عاشتها.
انسحبت من حياتها هي لتعيش حيوات الآخرين. خرّبت حياتها لتُعيد بناءها كما تريد. لا كما يُريد الآخرون. اختارت أن تُحارب دمارها النفسي بعمارتها الروائية. فاختارت الكتابة لتلد نفسها من جديد. والقدر وضع لها بطلها أمامها.
علي، حبيبها الأوّل، عاد من أميركا بعد 23 عاماً. هو الذي ما نسيته مرّة. هو الذي طاردها كطيف جميل. هو الذي اعتبرته مثالها الأعلى ونسختها المذكرّة وشبيه شاعرها الإستثنائي «رمزي خير». عاد علي من غربته الطويلة بعد موت الشاعر- الشبيه.

 فبدت عودته «تقمصية». عرفته من صوته قبل وجهه. هي أصلاً لم تنساه حتى تتذكّره. منذ رأته في مكتبة «نعمة يافث» في الجامعة الأميركية في بيروت شعرت بأنّها وجدت ضالتها. لاحقته شيرين التي لم يتذكّرها إلاّ بعد جهد.
وأقنعته بأن يكون بطل روايتها. أن يُدخلها عوالمه لتتمكّن من إنجاز مشروع حياتها. فكان «بيت جدّه الكبير» في الجنوب هو الوجهة. هناك تعرّفا على بعضهما أيّام الطفولة. وهناك أحبّته.
وهناك فقط يشعران بأنّهما ينتميان إلى مكان ما. كلاهما يُعاني اللاإنتماء. وفي ذاك المكان فقط يجدان هوّيتهما الضائعة.

«علي الأميركاني». الشخصية الرئيسة أهدت إسمها إلى الرواية. فبدا العنوان، كما الرواية في شموليتها، مُفعماً بالرمزية. هذا الرجل هو حُكماً «علي» (العربي-المسلم) في أميركا، حيث يعيش منذ 23 عاماً.
وهو نفسه «الأميركاني» في موطنه الأصلي بعد عودته المتأخّرة إليه. رجع علي الذي جبُن عن حمل السلاح أيّام الحرب الأهلية ليجد أنّ أبطال الحرب صاروا أصحاب ثروات متضخمة. ومن هاجر من البلد مثله أو بقي فيه مثل شيرين صاروا أبطال المنافي (الداخلية والخارجية) بعللٍ نفسية متضخمة.

تبدأ رواية هالة كوثراني الواقعة في 174 صفحة من رواية شيرين درويش الأولى. هذه الأخيرة تجد في تمرّدها صحوة. بمعنى الخلاص. وتنطلق من تنفيذ مشروع حياتها القديم: الكتابة.
في الكتابة تجد الحبيب وتجعله البطل. تعود إلى البيت الجنوبي الكبير الذي سكنته بضع سنين فسكنها العمر كلّه. تبتكر لنفسها العالم البديل بعد حياة طويلة في المنفى الداخلي. في الكتابة تُعيد إحياء الشاعر الذي مات فعلاً ولم تُصدّق يوماً حقيقة أنّه رحل.
فيها أيضاً تجد نوافذ عدّة للتلصّص على منافستيها: «إيمّا»، الحبيبة الأجنبية التي تركته لأسباب غامضة. و«هدى» المدلّلة الصغيرة التي تطفّلت على يومياته وتملّكته بسحرها وجنونها. هي إذاً تسيطر، بالكتابة، على حياتها وعلى حيوات الآخرين بعدما عاشت سنوات طويلة على هامش وطنها ومجتمعها وعائلتها.

تنصت إلى علي. تتأمّل عينيه الحزينتين وأصابعه الجميلة. كلامه يُغذّي مخيلتها. تُدوّن ما تريده هي. تُعيد تركيب الأشياء على ذوقها. فتكتب شيرين -على طريقة إدوار في رائعة أندريه جيد «مزيفو الأموال»- «روايتها بتواريخها على شكل يوميات، في قلب رواية هالة كوثراني «علي الأميركاني».

التقنية السردية التي استخدمتها صاحبة «استوديو بيروت» ليست منتشرة بين كتّاب الرواية العربية، وخصوصاً الجُدد. الحبكة المنتقاة ليست سهلة. وإنما قامت هالة كوثراني باعتماد أسماء الأيّام في تحديد فصول الرواية، ما سهّل على القارئ قبول فكرة «الرواية ضمن الرواية» في شكل سلس وجذّاب.
البناء الروائي للعمل يستحقّ الوقوف عنده. فالكاتبة استخدمت تقنيات «ما بعد الحداثية» أو ما يُعرف بـ «الميتا رواية». وكانت مغامرة ناجحة من قبلها لكونها تمكنّت من الحفاظ على وحدة الرواية الإبداعية وتماسكها، رغم اللعبة الفنية المعقدّة إلى حدّ ما.

تستعير الكاتبة هالة كوثراني دور المحلّل النفسي في روايتها هذه. هي تسبر أغوار جيل كامل عاش الحرب وويلاته. فتبدو خبيرة في تحليل سيكولوجيات هذه الفئة التي تنتمي إليها أصلاً.
إنّها توضح علاقة علي بجذوره بأسلوب غير مباشر. إنّه يتيم. لا يعرف أباه. فيشعر بأنّه ابن أمّه فقط. هو يحب الإستماع إلى قصص والده الذي ورث عنه طول قامته ووسامته واسمه، إلاّ أنّه لم يتمكّن من أن يحبّ شخصاً لم يره.
وفي هذا أرادت الكاتبة ربّما الترميز إلى مشاعر العديد من عائلات الإغتراب التي حملت من لبنان اسمه فقط وعاشت في جغرافيات مغايرة على أساس أنّها الأم والأصل.

أمّا علي فلا يشعر بالاستقرار في أيّ مكان إلاّ في بيت جدّه الكبير الذي امضى فيه طفولته ومراهقته قبيل الحرب والهجرة. هناك فقط يتكلّم. يتذكّر.
وذكرياته هذه تُساعده على بناء هويته، كما تُساعد شيرين على اختراع هويتها البديلة وبناء حياتها الجديدة ككاتبة محترفة: «أنا أيضاً فقدت هويتي.
أجهضتها. لست الآن زوجة ولا أماً لأنني هذه الأيّام لا أمارس أمومتي، ولا ابنة صالحة، وما عدت موظفة في خدمة النظام المصرفي والنظام الرأسمالي عموماً» (ص 63).

حول علي، الشخصية- المفتاح في الرواية، تنسج هالة كوثراني أربع شخصيات نسائية. شيرين، الأم، هدى، إيّما. تلك النساء اللواتي يتشاركن علي يُمثّلن أربعة فصول، أو أربعة عوالم مختلفة.
الأم هي التي أنجبت علي ونقلت إليه مواهبها من الرسم والشعر وأحبّته وتعلّقت به إلى حدّ السيطرة والإستبداد. فما إن غاب عنها حتى وهنت ودخلت مرحلة «النسيان اللعين».
فنسيت ابنها وألم فراقه. وصورة الأم هنا تستجيب لنظريّة باشلار المعروفة، فهي تُمثّل الأرض والوطن. إنّها تُشبه إلى حدّ كبير لبنان الذي يعيش «الزهايمر» فعلية أنسته ذكريات الحرب والجثث والدماء، حتى كأنّه يبدو جاهزاً دوماً لاستعادة الماضي بصوره المريعة، مع استحالة التفكير بحاضره ومستقبله.

شيرين هي انعكاس علي. هي ابنة الحرب. بهواجسها وأفكارها ويومياتها تُجسّد شيرين جيلاً كاملاً من الشباب اللبناني الذي دفع رغماً عنه ثمن حربٍ همجية اندلعت وقت كان طفلاً يركض في أزقّة الأحياء وأروقتها.
إيّما هي الجلاّد التي رمى الضحيّة نفسه بين أحضانها. فكانت الحبيبة التي حضنته ومن ثمّ تركته على أوّل مفترق طريق. هي صورة الغرب بأناقته الظاهرية وخبثه الدفين. أمّا هدى، ابنة الثالثة والعشرين، فهي الشخصية التي ظهرت متأخّرة في رواية شيرين درويش.
انجذب إليها علي العائد من غربته الطويلة. عمرها من عمر سنوات غربته. أدهشته بجنونها ودلالها. بخواتمها الفضية التي تملأ أصابع يديها ورجليها أيضاً.
هذه «الطفلة المعجزة» والمرأة العصرية والتلميذة المثقفة صعقت «علي» عندما لوّحت بالمسدّس مشيرةً إلى رغبتها في قتل صديقتها التي سرقت منها خطيبها وكلّ أحلامها. في هدى تتجلّى صورة بيروت الحديثة والجميلة والمرعبة. بيروت ما بعد الحرب.
بيروت بشبابها الطائش. الشباب الذي لم تخترق أصوات القذائف أذنيه ولم تُخنقه روائح الرصاص والدماء. الشباب الذي تقتله حماسته لاقتناء سلاح لسبب مُقنع أو غير مُقنع.

المنفى... الهويّة... الإنتماء... البيت... الحبّ... النسيان...«علي الأميركاني» هي رواية صاخبة رغم هدوئها. تتزاحم فيها الثيمات. وتتشابك فيها الخيوط. وتتنوّع فيها التقنيات. وتتكاثر فيها الرموز. فيها استطاعت هالة كوثراني أن تُكرّس موهبتها الروائية وأن تُحدّد مدرستها الإبداعية المولودة من رحم الحرب الأهلية اللبنانية.