'يا ما كان'...

ثقافة, اهتمامات, منزل لبناني, النسيان, مسرحية

12 مارس 2012

كما عوقب سيزيف بأن يحمل الصخرة الضخمة على ظهره ويجول بها العالم، عوقبنا نحن بأن نحمل أوطاننا على ظهورنا ونجول بها العالم. كلّ فرد من أفراد تلك العائلة يحمل صندوقه الخشبي على ظهره ويمضي.
في ذاك الصندوق الأبيض بلون الصمت والعدم والنسيان وضع سكّان ذاك البيت أغراضهم وحاجاتهم وذكرياتهم ثمّ مضوا... مشوا بنظرات تائهة ورؤوس مطأطأة. رحلوا أو رُحلّوا إلى حيث لا يعرفون.
تركوا منزلهم الذي قضوا فيه سنوات عمرهم إلى مجهول. مالك جديد، مجهول. بهذه المشهدية التراجيدية يُسدل الستار على مسرحية «يا ما كان» التي عُرضت على مسرح «دوّار الشمس». أمّا البداية فكانت قبل ساعتين من الرحيل.

تنطلق أحداث المسرحية، التي أخرجها التونسي وحيد العجمي وكتب نصّها بالتعاون مع يارا أبو حيدر، من الساعتين الأخيرتين لعائلة مؤلفة من ستة أشخاص في انتظار قدوم صاحب المنزل الجديد. هي اللحظات التي يستعيد فيها هؤلاء المتوجسّون من قدوم المالك الثقيل ذكرياتهم داخل البيت الذي أمضوا فيه سنوات عمرهم.
هي ست شخصيات. ستّة نماذج تختلف في السنّ والطبيعة والميول والاهتمامات. لكلّ فردٍ منهم أكسسواره الخاص. «الشيء» الذي يُكملّه، أو ربما يُمثّله.

الجدّة المُصابة بالخرف (تؤدي دورها بإتقان وطرافة حنان الحاج علي) تضع صورها القديمة وزوجها المرحوم بين يديها وتستعيد ذكرياتها القديمة معه. فهي لا تتذكّر أصلاً إلاّ ما هو قديم. ابنة العمّ سلمى (يارا أبو حيدر) تحمل أدوات الحياكة من صنّارة وصوف. المحامي ناصر (طارق باشا) وزوج سلمى يتناول أوراقه بيديه ويؤدّي بروفات على مرافعته لحماية المنزل.
عامر (رودريغ سليمان) يشيل بندقيته على كتفه ويحمل الراديو ليستمع إلى أغنيات أسمهان وهو يحرس حديقة المنزل. صابر (باسل ماضي) الصغير يحمل العدّة لتصليح الأشياء المخربة. أمّا الشقيقة الصغرى زهرة (روان قشمر) فهي التلميذة التي تضع حقيبة المدرسة على ظهرها و«الممسحة» تحت قدميها لتنظيم المنزل.

هم يعرفون أنهم موجودون داخل منزل لم يعد لهم. جميعهم يعيش اللااستقرار وإنما يحاولون عبر أدواتهم تكريس وجودهم في البيت الذي خسروه بطريقة عبثية بعد ستين عاماً على امتلاك العائلة له.
وليس مُصادفة أن يعود مالك البيت الجديد في ذكرى الستين ليأخذ البيت من أصحابه الحقيقيين. أصحاب المنزل الذين خبأوا ذكرياتهم وأسرارهم وأحزانهم وصدى ضحكاتهم في غرفه وحديقته وبين جدرانه. البيت الذي لم يفلح ناصر في الدفاع عنه بالمرافعة، بالدبلوماسية، بالسياسة. ولا شقيقه ناصر نجح في حمايته عبر «جفته» أو سلاحه الذي لا يُنزله عن كتفه.

ستون عاماً هي تقريباً مدّة احتلال فلسطين وسرقة الأرض. هي عدد السنوات التي يعيش فيها العربي اللااستقرار. في هذه الذكرى يأتي مالك جديد. قد يكون ديكتاتوراً جديداً أو مُجرّد مُهرطق. لا ندري.
فالمالك القادم في الساعة الخامسة فجراً إلى بيته الجديد لا يُرى. تُسمع طرقاته على الباب فقط. فيطلع الأبطال خارج الخشبة التي تُطفأ فجأة لتلحق نظراتنا بمسيرة العائلة التي تحمل صناديقها على ظهورها وتصعد بمشهد سيزيفي بامتياز صوب باب مدخل المسرح.
«يا ما كان» عمل مسرحي جادّ في طرحه لقضية البيت. الأرض. أو الوطن... لم يعتمد فيه وحيد العجمي أي تكلّف إخراجي وإنما اختار المباشرة في تصور معاناة العائلة في آخر ساعتين داخل منزلهم. فنراهم يستعيدون ذكرياتهم داخل المنزل. يتعارك الأخوة.
الزوج والزوجة. الجدّة والحفيد. ثمّ سرعان ما يرقصون ويغنون ويتسامرون. ومع انتهاء كلّ مشهد من مشاهد المسرحية تجتمع العائلة وكأنها تأخذ صورة تذكارية.
وهذا الانتقال من لقطة إلى أخرى عبر لعبة الصور كان السمة التي ميّزت اللعبة الإخراجية عند المخرج وحيد العجمي.

عنوان المسرحية «يا ما كان» يُشير إلى الحكاية. فمخزوننا الثقافي والمعرفي والقصصي مُرتبط بعبارة «كان يا ما كان» التي تفتتح أيّ قصّة أو حكاية قديمة حصلت ولم يعد لها وجود.
في «يا ما كان» دلالة زمنية واضحة تشي بالماضي. إلاّ أنّها تحمل أيضاً في لفظها نداءً إلى المكان «يا مكان»، من هنا نلتمس الرابط الذي يصل الزمان بالمكان ما يجعلنا متوجسين كشخصيات هذا العمل من أن نُطرد من بيوتنا أو بالأحرى أوطاننا ونُصبح بلا «مكان» أو في عداد ال «يا مكان».


«من أجواء المسرحية»

بيت، جنينة، وعايلة...
«عايلة بلبنان، بشارع بأولة بناية عم تتعمّر جديد.
كان محلّ البناية بستان، البيت بآخر الشارع طريقو مقطوعة.
ما في جيران، في بس بيت، جنينة وعايلة.
العايلة بالبيت، بآخر ساعتين، عامر بعدو مشغول بتصليح الراديو، الختيارة عم تتفرّج عَصورها.
زهرة عم تنضّف الأرض، ناصر عم بيحضّر المرافعة، صابر سكّر الباب وسلمى بنت العم...