المسرحي زياد أبو عبسي «خطوات ملك» على الخشبة

إسماعيل فقيه (بيروت) 08 سبتمبر 2018

تميزت خشبة المسرح اللبناني الحديث بشخصيات فنية مبدعة قديرة لا يمكن حصرها بسرعة، إلا أن إحدى هذه الشخصيات لا بد أن يلمع اسمها فور ذكر المسرح اللبناني ورواده. إنها شخصية الفنان المسرحي المبدع زياد أبو عبسي الذي حضر على الخشبة حضور الوحش الهادئ.

من الإطلالة الأولى له برزت «خطوات الملك»، وحتى في أدواره المسرحية العادية، لم تغب خطوات الملك، ذلك أن زياد كان ملكاً في الحضور والتعبير والفعل والقول. أعمال زياد الرحباني الشهيرة تشهد لزياد أبو عبسي على هذه الخصوصية، وربما، والأرجح أن حضور أبو عبسي في مسرحيات الرحباني أعطاها أكثر بعدها الدرامي أو الكوميدي.

زياد أبو عبسي الذي لعب دور«أبو الزلف» في مسرحية زياد الرحباني «شي فاشل»، ودور «إدوار» في مسرحية «فيلم أميركي طويل»... هو إحدى الشخصيات المسرحية التي لبست دورها بإتقان، وجسدت حيوية الدور كما لو أنها في واقع مباشر ومعيوش.

واعتمد الفنان على ثقافته وبساطة الأشياء التي تحوطه، وانطلق في المشهد المتحرك كفاعل مباشر ومؤثر الى حد الاختزال. وهو أيضاً مثقف كبير وأستاذ جامعي يدرس المسرح، مرتبط بثقافة الكبار، عاشقٌ كبير لشكسبير، مولعٌ بقراءة الفكر والفلسفة والأدب، ولديه بعض الأراء والتحفظات على المزاج اللبناني العام، ويرى المسرح بعين الواثق الباحث المنتفض الجاهز للتغيير.

كوميدي مثقف

المسرحي زياد أبو عبسي، الذي زرع الضحكة في النفوس، أضحك الناس على الخشبة، ورسّخ حضوره بشخصيات كوميديّة عبثيّة، هو قبل هذا كله، رجل مثقف وصارم الرأي والموقف في سبيل الإبداع، رجل في غاية الجديّة والرزانة. من مواليد صيدا، جنوب لبنان. شارك في المسرح الجامعي أثناء دراسته المحاسبة في الجامعة اللبنانية ــ الأميركية.

وكان دوره الأول في المسرح مع زياد الرحباني في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو» . حامل ماجستير من جامعة «هيوستن». وله مشاركات عديدة في أعمال درامية وكوميدية تلفزيونية وسينمائية. لسانه اللاذع لا يصدم من يستمع إليه بقدر ما ينجذب الى مواقفه الصافية.

يجسد زياد أبو عبسي صورة فنية مسرحية خاصة جداً ارتبطت بصورة زياد الآخر، بشخصيّة إدوار، شخصية المسيحي المصاب برهاب المسلمين، كما أداها في مسرحية «فيلم أميركي طويل»، لكنّه، وهو الممثل المتبحّر في الفلسفة وعلم النفس، والأستاذ الجامعي، يأسف لحال المتفرّج الذي لا يعي ما يرى ويسمع، أي المتفرج على المسرح غير المحترف، الذي يخلط بين الشخصية والممثل.

ويقول: «يستفزني كل من يخلط بين المزاح والهزل أو الاستخفاف. على المتابع للمسرح أن يعي جيداً ما يسمع وما يشاهد، وعليه تفسير الشيء بالشيء الذي يزيد من وعي الموقف والصورة والمعنى، ومع الأسف، موهبة الإصغاء للفن ليست متوافرة لدى كثيرين، لدى بعض المتذاكين من الذين يخلطون بين المزاح والاستخفاف والضحك المفرط بلا مسوغ».

البداية

لا يتردد زياد أبو عبسي في الإجابة عن سؤال العمر والهوية والطفولة، ويجيب بالقول: «ولادتي كانت في عاصمة الجنوب صيدا 1956، أنتمي الى عائلة أصلها من بلدة راشيا الفخار الجنوبية. كانت طفولتي هانئة وطيبة ولطيفة جداً... كنا نتمشى كثيراً في الأماكن والحانات والشوارع، ونمضي أمسيات ساحرة عند درج الكنيسة الإنجيلية على طريق المية ومية في ضواحي مدينة صيدا».

أبو عبسي تلميذ المدرسة الإنجيلية، يعترف بأنه كان يخاف من بعض المواد العلمية في دراسته: «أكره الرياضيات»، لكنّه صريح أكثر بالبوح حين يقول: «لقد قرأت كتاب «أصل الأنواع» لداروين، و«جمهورية أفلاطون» وكنت في الرابعة عشرة من عمري».

ويضيف: «كنت أجمع مصروفي العائلي «الخرجيّة»، وأستقل الباص من صيدا إلى ساحة رياض الصلح في وسط بيروت، وكم اشتريت الكتب من بائع يراعيني في السعر لصغر سني». في ذلك العمر اليافع المتدفق، بدأت تتكوّن ميول الصبي الحالم. وفي موازاة القراءات الفلسفية، بدأ محاولاته التمثيلية الأولى في حضن «جمعية كشاف لبنان»، التي انتسب إليها. ويعترف زياد قائلاً: «حتى اليوم، لا تزال السهرات حول النار في المخيّم، حاضرة في ذاكرتي ولم تفقد رونقها، ما زالت نابضة في ذاكرتي كأنها تحدث اليوم أو غداً».

ثمة ظروف أملت على الفنان خطواته الأكاديمية الأولى. في عام 1974، التحق بقسم المحاسبة والإدارة في «الجامعة اللبنانية - الأميركية»، لأنّ مجموعه في البكالوريا خوّله ذلك، ولأنّه اختصاص سيتيح له إيجاد عمل بسهولة وكسب المال، لكنّ سنوات الأرقام والمحاسبة لم تمرّ من دون مسرح وتمثيل.

يستذكر ويتذكر زياد أبو عبسي الكثير من ماضيه الجميل: «على مسرح الجامعة، تعرّفت إلى أدباء وكتّاب، منهم الأديبة اللبنانية الراحلة روز غريّب، التي يستحق نتاجها الأدبي المزيد من الدراسة. شاركت في مسرحية من تأليفها بعنوان «فينيانوس بالضيعة». وكانت لي نشاطات في المسرح الجامعي...».

اللقاء مع الرحباني

اللقاء المبكر بين زياد أبو عبسي وزياد الرحباني استمر طويلاً وأثمر ذلك اللقاء تعاوناً طويل الأمد بين الاثنين، كانت أولى ثماره أداء أبو عبسي دور هارولد في «بالنسبة لبكرا شو» عام 1978. في العام نفسه، التحق أبو عبسي بقسم المسرح في الجامعة ذاتها.

هناك، قام بتجربته الكتابية الأولى عام 1979، وكانت مسرحية «الشمع». اتخذ العمل منحىً فلسفياً في طرح مبدأ التشكيك، حاملاً البذور الأولى لمشاغل أبو عبسي التي سترسم لاحقاً تخصّصه في الفلسفة.

ويقول أبو عبسي عن تلك التجربة الطويلة مع الرحباني: «رغم أنّ طريقة زياد الرحباني تختلف عن طريقتي، استمتعت بالعمل معه انطلاقاً من التزامي مبدأ الولاء للكاتب». ويُذكر أن أبو عبسي شارك في غالبية أعمال زياد الرحباني المسرحية، منذ عام 1978: من «فيلم أميركي طويل» (1980)، و«شي فاشل» (1983)، إلى «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993) و«لولا فسحة الأمل» (1994).

وكانت لأبو عبسي مشاركات مسرحية أخرى، وتجارب مسرحية مع مخرجين آخرين، مثل الراحل يعقوب الشدراوي في «جبران والقاعدة» (1981)، وربيع مروة في «المفتاح» (1996)، وفيصل فرحات في «سقوط عويس آغا» (1981)، وأخرى تلفزيونية مع المخرج رفيق حجار، إلا أن العمل المسرحي في الإطار الجامعي، الذي انكب عليه منذ عام 1986، حين بدأ تدريس مادة المسرح في «الجامعة اللبنانية - الأميركية»، كان الأكثر غزارة. «لإشباع رغبة قديمة» كما يقول، التحق أبو عبسي، في موازاة مسيرته المسرحية، بقسم الفلسفة في «الجامعة الأميركية في بيروت» عام 1982. وتابع الدراسة في الولايات المتحدة، حيث التحق بـ «جامعة هيوستن»، ابتداءً من عام 1983 لدراسة الفلسفة والمسرح. وحاز شهادة الماجستير بعدها بثلاث سنوات، قبل أن يعود إلى التدريس في بيروت.

ويتحدث أبو عبسي عن «المغامرة» الذي انطلق بها وقاربها ووصلت به الى اكتشافات ومنها: «أن المسرح التراجيدي ما زال يستقطب المشاهدين من خارج الحرم الجامعي».

الصمت الصاخب

في عام 1992، حصل أبو عبسي على منحة بحث متقدم من مؤسسة Fullbright، سافر على أثرها إلى الولايات المتحدة مجدداً ليتعمّق أكثر في المسرح الشكسبيري. وبعد عودته إلى بيروت، تفرّغ لتقديم شكسبير على مسرح الجامعة، وكانت المحصلة: «كما يحلو لك»، و«الليلة الثانية عشرة»، و«زوجات ويندسور الفرحات»، و«ريتشارد الثالث» و«ماكبث»...

يعترف أبو عبسي بأنه يعيش هاجس الوعي الصامت، «المسرح هو الفعل الأقرب الى الصمت. المسرح بالنسبة إلي هو فن الظهور الصاخب، ورغم هذا الصخب ثمة صمت دفين يظهر في العيون والأجساد المتحركة على الخشبة».

أصالة صافية في الوعي المسرحي جسدها أبو عبسي، كانت وما زالت أصالة هادئة ورصينة وتعطي للعمل الفني حقه وقيمته الإبداعية. وليس غريباً على «وحش المسرح» أن يستمر بهذا العطاء الإبداعي ويبدو ملكاً على الخشبة.