الفنان جان بوغوسيان حوّل النار إلى فن وجمال

كارين اليان ضاهر 13 أكتوبر 2018
في حياة الفنان جان بوغوسيان أسرار كثيرة وزوايا تحكي قصة عشقه اللامتناهي للفن الذي لم يغُص فيه فعلاً في مرحلة مبكرة من حياته. فمن عالم المجوهرات الذي عمل فيه مع العائلة والذي تعلّق به، استطاع أن ينتقل إلى العالم الآخر الذي عرف فيه معنى الحرية والتجرّد. تفاصيل كثيرة في حياته لعبت دوراً في نجاحه وتميّزه، حتى أنه لا ينكر دور الفشل في تحقيق النجاح فيصبح عنصراً إيجابياً إذ نتعلّم منه. في حوار عميق وشفّاف، يتحدث الفنان المتعدد الثقافات الذي رفض الحدود والحرب والعنف، عن خبايا فنّه الذي يوجّه من خلاله رسالة إلى العالم محوّلاً النار إلى عنصر جمال وبناء وفن بالتزامن مع إقامة معرضه في بيروت الذي حمل عنوان “البناء بالنار”، ومؤكداً أن في استطاعتنا تحويل العناصر الأكثر عدائيةً وعنفاً إلى جمال وإيجابية وسلام.


- بشكل عام، ثمة ما يشير في طفولة الفنان إلى أنه يملك عشقاً لفنّه وأنه سيتجه إليه في يوم من الأيام، هل حصل هذا معك علماً أن والدك حاول أن يوجهك إليه بينما كنت في السادسة من عمرك ولم تكن متحمساً للفكرة؟

من المؤكد أن السنوات الست التي درست فيها الرسم وأنا في السادسة من عمري تركت أثراً واضحاً فيّ. لكن في تلك الفترة لم أتعلّم الرسم لأتجه إلى الفن عامة، بل كان هدف والدي تعليمي الرسم تمهيداً لدخولي عالم رسم المجوهرات وصياغتها، وهو المجال الذي تعمل فيه العائلة. لكن في الوقت نفسه، كان الرسم وسيلة أعبّر من خلالها عن عشقي من دون أن أكتشفه فعلاً إلى أن اشتريت لابني وهو في سن التاسعة هدية هي عبارة عن كل التجهيزات والمعدّات الخاصة بالرسم، لكنه لم يكترث بها، واكتشفت أن هذه الهدية كانت فعلاً تخصّني. حصل ذلك قبل 31 عاماً. رسمت أولاً كهواية أعشقها، ثم بدأت الدراسة في الأكاديمية مساءً بعد الانتهاء من عملي في صياغة المجوهرات. منذ ذلك الوقت، دخل الرسم في أعماقي كما دخلت فيه.

- هل تعتقد أن التوجّه إلى الفن يتطلب من يكتشف في الفنان عشقه له ويوجهه إليه أم أن المسألة جينية وفطرية؟

من الضروري أن يكون عشق الفن جينياً في الدرجة الأولى. لكن، إلى جانب العامل الجيني، لا بد للفنان من أن يعمل على تطوير نفسه. ثمة شعاع يظهر لدى الفنان أولاً في عشقه للفن، واتجاهه إليه يدلّ على الموهبة، أما الباقي فيتمثّل في تطوير الذات والجهد لتحقيق النجاح والبروز في هذا المجال. وأذكر أن أحد أساتذتي كان يقول دوماً إن مصدر الفن يعتمد بنسبة 5 في المئة منه على الوحي، وبنسبة 95 في المئة على الجهد. وأعتقد أنه بغير ذلك لا يمكن الفنان أن يبرز في مجاله ويكتشف كل جديد.

- انتقلت من مجال صياغة المجوهرات إلى فنون الرسم والنحت، هل من علاقة بينهما وإلى أي مدى استطاع أحد المجالين أن يقوّي عشقك للآخر؟

في الواقع، يمكنني القول إن كلاهما يدخل في إطار الفن، وهناك علاقة واضحة بينهما. لكن في المقابل، ثمة فارق مهم بين عالم صياغة المجوهرات وفن الرسم، فالأول هدفه تجاري، فالعمل في مجال المجوهرات يكون بهدف بيعها وتبدو فيه العلاقة واضحة مع الزبون. أما عالم الرسم حيث أعيش اليوم فلا علاقة فيه بالزبون، فأنا أرسم لأعبّر عن ذاتي ولأُخرج ما عندي من دون أن أهدف الى البيع. أرسم لنفسي وأتمنى دوماً لو أن اللوحة التي أرسمها لا تُباع حتى أحتفظ بها لنفسي. من الطبيعي أن اللوحات التي تعرض في المعارض قد تُباع ويشتريها كثر، لكن حين أرسم لا أفكر بذلك، وأفضّل ألا يحصل أبداً حفاظاً على لوحاتي، وغالباً ما أُنتقد على أسلوب تفكيري هذا، استناداً الى مبدأ يقضي بوجوب أن ينتقل فنّي إلى الناس، لا أن أحتفظ به لنفسي. يهمّني طبعاً أن يقدّر الناس فني وأعمالي وأن يحتفظوا بها.

- مما لا شك فيه أن الفن يرتكز أساساً على مبدأ الانزواء والاختلاء بالنفس فيما هو في الوقت نفسه انفتاح على العالم، كيف تعمل على التوفيق بين المبدأين؟

ثمة ضرورة للحظات الاختلاء بالنفس في محترف الرسم، لأعبّر عن مكنوناتي، لكن العلاقة مع الناس تأتي لاحقاً في المعارض. إلا أنني أفتقر إلى ذلك لكوني أميل إلى الاختلاء وأحبّ الهروب دوماً إلى محترفي. في الوقت نفسه، أعرف أن ثمة ضرورة للتواصل مع الناس، خصوصاً في ما يتعلق بأعمالي، لكن حين تسنح لي فرصة الاختيار ما بين الخروج إلى مكان ما والاختلاط مع الناس أو التوجه إلى المحترف للرسم، أختار المحترف طبعاً. قبل أن أكتشف عشقي لفن الرسم، كنت أخرج وأتسلّى مع الأصدقاء كأي شخص آخر، لكن لاحقاً وبعد غوصي في هذا المجال، صرت أكتشف أن كل لحظة أمضيها بعيداً من الفن تخسّرني الوقت، خصوصاً أنني اليوم أحرص على استغلال كل لحظة فأعمل في المحترف ما لا يقل عن 7 ساعات لأبدع في المجال الذي أعشقه وأجد نفسي فيه.

- إلى أي مدى يشبهك الفن الذي تعبّر من خلاله وكيف يعكس شخصيتك؟

من المؤكد أن فني يعبّر عن شخصيتي كما بالنسبة الى أي فنان آخر. ثمة ظروف مررت بها ومعاناة عشتها قد أعبر عنها في فني. لكنني لا أترجم حكماً المعاناة بنسبة 100 في المئة في فني، بل هو أكثر يأتي إجابة على تساؤلاتي حول الفن والإبداع لأقدّم ما هو جديد.

- هل من شخص أثّر فيك ولعب دوراً في وصولك إلى هذه المكانة في الفن؟

لا، بل هي الظروف التي لعبت دوراً في وصولي إلى هذه المكانة في الفن، وبالتالي إرادتي حين قدّمت الهدية إلى ابني وأدركت من خلالها عشقي للفن فاخترت الغوص فيه.

- هل تعتقد أن عملك في مجال تصميم المجوهرات وصياغتها لعب أيضاً دوراً في توجّهك إلى الفن واكتشاف عشقك له؟

في الواقع، هو العكس تماماً، فعملي في المجوهرات أبعدني عن الرسم لأن عالم المجوهرات مرتبط بالتفاصيل. حتى أنني حين بدأت الرسم بالتزامن مع عملي في المجوهرات، كنت أركّز في التفاصيل إلى أن تطورت شيئاً فشيئاً ووصلت إلى التجرّد وتحرّرت. وجدت في الرسم الحرية التي أفتقدها في المجوهرات، التي تفرض حدوداً معينة وتفاصيل ودقة لا متناهية ومنطقاً. المجوهرات تقضي بالتعامل مع مواد صلبة، أما الفن فهو العكس تماماً. أيضاً العمل في المجوهرات يرتبط بزبون سيشتري القطعة فيما الفن هو تعبير عن الذات وتطور لا متناهٍ. لذا يمكنني التأكيد أن المجوهرات، على الرغم من جمالها والفن الذي تحمله، أبعدتني عن عشقي لفن الرسم الذي أعمل فيه منذ 31 سنة.

- من أين تستوحي في الفن؟

أستوحي من كل ما حولي... من الطقس، من الحرب، من أمور أتفاعل معها فأجد فيها ما يدعوني إلى التعبير بالرسم. ما من شيء معين يؤثر فيّ. كل تطور في فني يحفزني على تقديم المزيد وأستوحي منه. فاللوحة التي أرسم اليوم، أستوحي منها لرسم أخرى غداً. ففي كل عمل أقدّمه تطور ومصدر وحي وطريق لعمل أُبدع فيه.

- هل تذكر اللوحة الأولى التي قدّمتها وتركت أثراً لدى أشخاص معينين فكانت مميزة فعلاً؟

اللوحة الأولى التي رسمتها كانت لمنزل. بدأت بأمور أساسية إلى أن تطورت. لكن، مع تطوري خلال 31 سنة من الرسم، ما من لوحة مميزة بالنسبة إليّ، فاللوحة التي لم أقدّمها بعد هي التي أحلم برسمها والأكثر تميزاً عندي. الفن عبارة عن استمرارية، وما من ذروة أو قمة يمكن الوصول إليها. الفن في تطور دائم ولا يمكننا بلوغ الذروة فيه حتى لا نهبط عندها ونفشل. قد يقيّمني الناس لاحقاً بالاستناد الى مرحلة كنت فيها أكثر تميزاً.

- ما الذي يميّز فنّك عما يقدّمه فنانون آخرون حتى تبرز وتنجح بهذا الشكل؟

قد يكون التطور الذي مررت فيه حتى تحررت ووصلت إلى التجرّد خلال سنوات طويلة بعد أن التزمت باختبارات وبقواعد معينة في الرسم، هو الذي لعب دوراً في تميّزي. في مرحلة التجرّد، اكتشفت تقنيات متنوعة في الرسم ساهمت في المزيد من التطور والاكتشافات. حتى أنني استخدمت النار ولم أكن أتصوّر أنني سأستخدمها أكثر من 6 أشهر، وها أنا مستمر في ذلك منذ 8 سنوات، مع ما في هذه التقنية من خطر احتراق اللوحة وإمكان عدم نجاحها.

- لماذا اخترت النار لتستخدمها في الرسم؟

من الأسئلة التي طرحتها على نفسي حول ما يمكن أن تعبّر عنه النار في اللوحة والأثر الذي يمكن أن تتركه، اعتقدت أنني سأقدّم عملاً غريباً ومبدعاً. اكتشفت تعلّقي بالنار وأنها أصبحت شريكتي في الفن. هي أشبه برقصة أعمل من خلالها على ضبط الصدفة محاولاً التحكّم فيها كما أريد. أحياناً أتوقف عن استخدامها أو قد أحرق اللوحة كاملة فيذهب تعبي سدىً ولا أصل إلى نتيجة. أجمل ما في النار هو الخطر الذي تحمله والتحكم العفوي فيها وما يمكن الوصول إليه في هذا التحكم. ثمة فنانون قلائل جداً تعاملوا مع النار، فنادراً ما يتم الاستمرار في هذا الفن كما فعلت أنا.

- بين لبنان وأرمينيا وسورية وبلجيكا، إلى أي بلد تنتمي أكثر؟

ولدت في سورية وعشت 13 عاماً في لبنان أعتبرها أجمل أيام حياتي. كما عشت سنوات طويلة في بلجيكا التي غلب فيها العمل لكنها وفّرت لي الأمان والاستقرار والانضباط وحياة جميلة هادئة. في كل الحالات، لا أنتمي إلى أحد هذه البلدان، فكلّها ساهمت في تكويني، وهذا التعدد الثقافي لعب دوراً مهماً في حياتي.

- هل أُرغمت على دخول عالم المجوهرات أم أنك وجدت جزءاً منك فيها؟

في الأساس، كنت أتساءل عن المهنة التي يجب أن أختارها. عليّ اختيار المهنة التي أحبّها، لكن من الضروري أن أتعرف على مجال حتى أحبّه. ولدت في عالم المجوهرات وأمسكتها بيدي وتعرفت على هذا العالم وتعلّقت به، فهو عالم جميل. وفي أثناء دراستي، كنت أتدخل جزئياً في عالم المجوهرات، لكنني لم أكن أرغب بدخوله سريعاً، فيما أراد والدي توجيهي إليه بأسرع وقت ممكن. فبالنسبة إليه، يجب عدم إضاعة الوقت في الدرس، ومن الضروري البدء سريعاً بالعمل. كنت أدرس وأعمل في الوقت نفسه. وعندما تركت لبنان، كنت حاضراً لأي عمل أريده في الخارج.

- هل ظروف الحرب التي مررت بها موجودة في فنك؟

للنار علاقة بظروف الحرب التي مررت بها. فمن خلال عملي، أحاول إظهار أن كل عنصر مهما بدا سلبياً وعدائياً، يمكن أن يُستخدم بطريقة إيجابية في الفن. أرى الفن أساسياً اليوم لتقريب الشعوب بعيداً من الدين والسياسة والطائفية والهوية والحروب والحدود التي تبني كلّها جدراناً بين الشعوب. يجب أن نعمل على فتح النوافذ والأبواب بين الشعوب، وقد يكون الفن هو الوسيلة لتحقيق ذلك. الفن يفتح المجال واسعاً للخيال، وقد يكون حلاً لما لم يستطع العقل إيجاد حل له. فالحروب التي نشهدها اليوم مؤسفة فعلاً.

- لو عاد بك الزمن الى الوراء لتغيّر شيئاً في حياتك، ما الذي قد تغيره؟

لو سنحت لي الفرصة للتغيير فلن أغيّر أي شيء في حياتي، لأنني لو غيّرت لا أعلم ما قد يحصل في حياتي وأي اختلاف سيطرأ عليها. أعرف أنني غامرت في كل خطوة خطوتها، وفي الوقت نفسه أثق بأن كل ما حصل معي وإن كان سلبياً كان له وقع إيجابي في مكان ما وفي مرحلة من المراحل.

- أي مواد تستخدم في الرسم؟

أستخدم كل المواد المتاحة في الرسم، الجديد منها والمستخدم. فالاختبار ضروري في الرسم شرط ألا تفلت الأمور من السيطرة. قد أفشل أحياناً وأنجح في أحيان أخرى، لكن التجربة ضرورية وإن لم أعرف نتيجة ما أقوم به.

- أيّهما تركز فيه أكثر: الرسم أم النحت؟

أركز حالياً في الرسم. فللنحت منحى آخر ويتطلب المزيد من الجهد الجسدي، وهو مواجهة بين الإنسان والخشب.

- كفنان، ماذا تعني لك المشاركة في معرض La Biennale de Venise؟

أعتقد أن معرض البندقية هو الموقع الأهم الذي يمكن أن يصل إليه فنان، وكنت محظوظاً بأن اختارتني أرمينيا لأمثلها فيه، وكانت تجربة رائعة بالنسبة إليّ. عشت في البندقية سنة من أجله. كنت أزورها بانتظام من أجل المعرض الضخم الذي ضمّ فنانين من العالم وهو يعود إلى عام 1895.

- كيف تم اختيار عنوان المعرض الذي تقيمه في بيروت؟

اسم المعرض Building with Fire وهو يعني البناء بالنار. سيُقام في المبنى الذي لم يبقَ منه بعد الحرب إلا الواجهة. وجدته مناسباً جداً لعنوان المعرض لاعتباره سيُهدم ليبنى مكانه آخر جديد. وبالتالي سيهدم مباشرة بعد المعرض، وهو يعكس بشكل رائع عنوان المعرض حيث يُقصد به أن هذا المبنى الذي هُدم بالنار يعيد عملي بناءه بالنار. فكما يمكن النار أن تعكس العنف، يمكنها أيضاً أن تعكس الفن والجمال.

- ماذا يعني لك أن تقيم المعرض في بيروت؟

لبنان بلدي ويعني لي الكثير بكل ما فيه من جمال. الحياة في لبنان لا مثيل لها في العالم.

- أي رسالة توجهها من خلال فنك؟

“الإجابة للعالم هي في الفن”...

- هل من مشاريع مستقبلية تنوي تحقيقها؟

عملي هو عبارة عن خطوط وطرق أختار أحدها عندما أصل إليها فتوصلني إلى مكان ما. ثمة أفكار أطوّرها في الفن، لكن لا طريق محدداً لي. عندي أسئلة كثيرة أحاول الإجابة عنها من خلال فني لأقدم كل ما هو جديد ويعبّر عن مشاعري.

- هل من عمل قمت به يوماً ما، خذلك وفشلت فيه وتعلّمت منه الكثير؟

في أثناء دراستي أذكر أن والدي قال لي: “يجب أن تنجح فيجب ألا تبدأ حياة ابني بالفشل”. منذ ذاك الوقت، لا أذكر أنني فشلت في عمل ما. ثمة أماكن بسيطة نفشل فيها فنتعلم منها الكثير. فالفشل الأكبر يحصل لدى من لا يفشل. الفشل ليس سلبياً، فبمجرد أن أتعلم منه وأحوّله إلى شيء إيجابي في حياتي، لا يعود فشلاً. ما من نجاح كامل. نحن في مرحلة بحث دائم وتطور من دون أن نتوقع الوصول إلى مكان ما، ففي التجربة والفشل تكمن أسرار النجاح.