كنوز تاريخية وطبيعية وبصمة عربية في صقلية Sicily

صقلية- رولا الخوري طبّال 21 أكتوبر 2018
سحرتني طبيعة صقلية من خلال كاميرا المخرج فرنسيس فورد كوبولا في فيلم “العرّاب”، ثم تعرفت على شواطئها الساحرة في فيلمي «ميلينا» و«أوشن توالف». كثيرة هي الأفلام التي سلطت الضوء على هذه الجزيرة الأسطورية التي لا تتوقف عن إغراء السيّاح لما فيها من تنوع طبيعي وتاريخي وثقافي. تقع جزيرة صقلية في جنوب إيطاليا وتحتل موقعاً استراتيجياً بين ساحل إيطاليا الجنوبية وساحل أفريقيا، لذلك كانت عبر التاريخ مركزاً للعديد من الغزوات والفتوحات، ومنها الغزو الإسلامي في القرن التاسع حيث قُسّمت الى 3 مقاطعات ولا تزال تحتفظ بهذا التقسيم الى اليوم Val di mazara, Val di noto, Val Demone ولا يزال الإرث العربي جلياً في العمارة والزخرفة واللغة الصقلّية أيضاً.


أكثر ما يلفت انتباهك عند البدء باستكشاف الجزيرة، فضلاً عن المناظر الطبيعية الخاطفة للأنفاس، هو التمازج بين الحضارات في الهندسة المعمارية والتفاصيل الزخرفية، إذ بالإضافة الى العرب فقد غزاها الإغريق والإسبان والفرنسيون وغيرهم.

فرصة ذهبية كانت أن أزور صقلية وأتعرف على تفاصيلها، وفكرة جميلة ومبتكرة كانت عندما دعت شركة “فيات كرايسلر أوتوماتيك” FCA، صحافيات من منطقة الشرق الأوسط لتجربة سيارة جيب الجديدة في جزيرة صقلية. فكيف يمكنكِ أن تقاومي دعوة لاكتشاف أكبر الجزر في البحر المتوسط في سيارة مريحة تقودينها على طرقاتها المزنّرة بأشجار الزيتون والصبّار والكروم والمراعي الخضراء، أو بمحاذاة شواطئها الخلابة، أو في أسواقها القديمة التي تتكئ على أقدام البيوت الملونة، وقرب القصور القديمة والأديرة والكنائس والمباني التاريخية!

كاتانيا

أولى محطاتنا كانت كاتانيا التي تحتضن العديد من الساحات الجميلة، وأكثرها روعةً هي ساحة بيازا ديل دومو التي تتسم بالطابع الباروكي منذ العام 1730. أما كاتدرائية سانتا أغاتا فهي صرح ضخم يحتوي على قبر ملحن الأوبرا الشهير فينشنزو بيليني وتوابيت ملوك أراغون. قلعة أورسينو أحد الأماكن الأثرية المهمة، وهي عبارة عن حصن متين بُني من حجارة الحِمم البركانية عام 1239، وهنا سوف يدهشكِ المزيج الرائع بين مهابة التاريخ وضخامة العمران الذي تتوّجه السماء الزرقاء وتنبسط تحت قدميه خُضرة الطبيعة. إذا أردتِ المبيت في كاتانيا، اختاري فندق NH Catania Parco Degli Aragonesi

تاورمينا

من كاتانيا توجّهنا الى تاورمينا. كانت المتعة مزدوجة، مناظر خلاّبة على طول الطريق، ورفاهية وراحة داخل سيارة Jeep. وجهتنا الأولى كانت مسرح teatro antico الإغريقي -الروماني الذي يُعدّ ثاني أكبر المسارح التاريخية في صقلية. بدأ الأغريق ببناء هذا الصرح المهيب في القرن الثالث قبل الميلاد، ثم أكمله الرومان في مرحلة أخرى، وتستطيعين التمييز بين الحضارتين والحقبتين من خلال التفاصيل كالحجارة المستخدمة.

لا يزال هذا المسرح يُستخدم الى اليوم في المهرجانات والاحتفالات الفنية ويستضيف كبار النجوم. يطل هذا المسرح على مشهد رائع للشواطئ والجبال على حد سواء، منها جبل إيتنا الذي يحتضن البركان الشهير وجزيرة إيسولا بيلا. توجّهنا بعدها الى شارع كورسو أومبرتو الذي يحمل الطابع الصقلّي، فهو مزيج من عصور عدة، من العصر العربي الى القوطي فالباروكي، وتجولنا بين البيوت الملونة والمحال التجارية التي تعرض التذكارات والمصنوعات المحلية كالسيراميك والمقاهي والمطاعم، وقد اخترنا مطعم Villa Zuccaro L’osteria الذي قدّم لنا أشهى الأطباق والمشروبات المحلية.

الجدير ذكره أن هذه البلدة تستضيف مهرجان تاورمينا للأفلام سنوياً منذ العام 1955، وقد قدّمت خلال الأعوام الماضية “الشريط الفضي” NASTRO D’ARGENTO، وهو الجائزة التي يمنحها المهرجان للكثير من النجوم الإيطاليين، واستضافت عدداً كبيراً من مشاهير هوليوود. إذا أردت المبيت في تاورمينا ننصحك بفندق Villa Diodoro الذي يتمتع بإطلالة ساحرة على البحر والجبل في آن.

مارزميمي

انطلقت بنا سيارة جيب بهدوء وسلاسة، وتبعنا تعليمات الملاحة الرقمية على اللوحة الذكية التي زُوّدت بها السيارة. وصلنا الى مارزميمي أو قرية الصيادين، وتقع على بُعد بضعة كيلومترات من الساحل في أقصى جنوب شرقي صقلية، وهي واحدة من أجمل القرى الساحلية. وضع العرب هذه القرية على خريطة العالم حين غزوها في القرن العاشر، وهم الذين اطلقوا عليها اسم «مرسى الحمام» أو «مازميمي» وعلّموا سكانها طريقة صيد التونا ومعالجتها. مارزميمي واحدة من أجمل القرى التي تطل على البحر في ايطاليا، ولذلك فهي منطقة جذب سياحي مهمة. سوف تعشقين هذه المدينة بسماتها الرومانسية. اختاري أياً من المطاعم قُبالة الميناء حيث الطاولات البيضاء والكراسي الزرقاء، وتذوّقي أشهى الأسماك، وتمتّعي بمشهد رائع للبحر حيث تتهادى قوارب الصيادين فكأنك تستطيعين سماع نداءاتهم وصراخ فرحهم بصيدهم الثمين. على الرغم من أن بناء “تونارا”، أي مصنع التونا القديم لم يعد يعمل، إلا أن مارزميمي تواصل نشاط الصيد وتنتج التونا المعلّبة والأسماك المجفّفة، وسمك أبو سيف المدخّن والأنشوفة والكثير غيرها. وسط المدينة يعود تاريخه الى القرن الثامن عشر حيث المباني الساحرة، بما في ذلك كنيسة سان فراشيسكو دي باولو، مصنع التونا Tonnara، قصر الأمير الأرستقراطيPallazzo ، وصفٌّ من منازل الصيادين التي تستقبلك أبوابها الزرقاء وترحّب بك أصص الزهور الحمراء Geranium التي تزيّن شرفاتها ونوافذها. تخيّلي هذه اللوحة الرائعة مع خلفية البحر الفيروزي والسماء الزرقاء!

موديكا

قرية تاريخية بامتياز ذات طابع باروكي. في الماضي كان يخترقها نهر يتخلله واحد وعشرون جسراً. كانت بمثابة “البندقية” الصغيرة. وطبعاً بوجود الماء تكون الحياة، لذلك تشهد هذه القرية اكتظاظاً سكانياً، وقد بُنيت بيوتها من نوع الصخر نفسه. ما يصدمك في هذه القرية ليس ما ترينه فقط، بل ما خُفي أيضاً. تخبّئ هذه البلدة في أحشائها 700 مغارة كانت تُستخدم في الماضي للاختباء من الغزاة، أما اليوم فلا تزال موجودة تحت البيوت وتُستخدم كأقبية لتخزين الأجبان واللحوم والمشروبات. تُعرف موديكا بصناعة الشوكولاته التي أدخلها الإسبان في القرن الخامس عشر، وتتميز بتركيبتها الفريدة ونكهاتها المميزة. يزور الأمير ألبير دو موناكو وعائلته موديكا سنوياً، إذ إن جذور عائلة غريمالدي تعود إلى موديكا. يمضي الأمير في موديكا أياماً عدة، وتكون إقامته سرّية وينزل في الجهة المقابلة للقرية ليتسنى له التمتع بالمشهد الرائع من الطرف المقابل. مزيج رائع من الحضارات أغنى سكان موديكا، من العربية إلى الفرنسية فالإسبانية، فتشكّلت لدى السكان لغة محلية تختلف بعض مفرداتها عن اللغة الإيطالية المتعارف عليها. سُمّيت موديكا، أي “الفندق”، نظراً لموقعها الاستراتيجي على البحر إذ كانت صلة وصل في الماضي بين أفريقيا وأوروبا. غزاها العرب في القرن التاسع وتركوا بصمتهم في اللغة والعادات والهندسة المعمارية الصقلّية.

لا تفوّتي زيارة كنيسة سان بيترو لتتعرّفي على مكان يجمع الحضارات التي تعاقبت على موديكا في قالب باروكي. كل ما في هذا المكان غريب ويستحق المشاهدة.

راغوزا إبلا

لم تستغرق رحلتنا من موديكا الى راغوزا إبلا أكثر من 15 دقيقة في السيارة. وهذا القرب منح هاتين القريتين تاريخاً واحداً، وبالتالي نمطاً معمارياً واحداً. هي إذاً تحفل بالمباني الباروكية المذهلة ككاتدرائية سان جورجيو بأدراجها الطويلة وأعمدتها الضخمة المزخرفة التي تعلوها قبة نيو كلاسيكية بُنيت عام 1820 وقصر زاكو وفيلا زينا. في راغوزا إبلا أجود الأجبان، لذا لا تفوّتي زيارة أحد المحال المتخصصة للتلذّذ بأجبان صقلية الشهية. لن تقاومي لذّة تذوّق كل الأجبان الموجودة، وسوف تحارين حين تقرّرين الشراء، خاصة إذا لم يكن لديك متسع في الحقائب.

على أطراف راغوزا تقع “دونا فوغاتا”، ومعناها المرأة الهاربة. هنا ملاذك للهرب من الحياة الصاخبة، خاصة في منتجع الغولف Donnafugata Gulf Resort and Spa . مساحات خضراء شاسعة لمحبّي رياضة الغولف وحوض سباحة ولا أروع وسبا ينعش الحواس ويمدّ الجسم بالطاقة. انعمي بالرخاء الصقلّي، وانسي كل الهموم اليومية في هذه الجنّة الصغيرة.

بركان أتنا

هو أحد أنشط البراكين في العالم، ومركز جذب كبير للسيّاح. يقع على الساحل الشرقي من صقلية بالقرب من كاتانيا وميسينا، ويرتفع حوالى 3300 متر. كان العرب يسمّونه خلال فترة حكمهم “جبل النار”، ويكاد يكون في حالة مستمرة من الغليان والانفجارات وقذف الحِمم، ولكنها عادة غير خطرة، بحيث يعيش عدد كبير من السكان على سفح جبل أتنا. أما أكثر ثورات البركان تدميراً فكان آخرها عام 1669 حيث دمّرت حِممه عدداً كبيراً من المدن الصقلّية وأودت بحياة آلاف الأشخاص.

فيلم “العرّاب”

إذا كنت من عشاق فيلم “العرّاب” The Godfather لآل باتشينو، توجّهي الى فيوميفريدو، الى القصر/المتحف Castello degli Schiavi حيث صُورت مشاهد عدة من هذا الفيلم. سوف يستقبلك المالك ويرافقك في زيارة القصر، كما يمكنك تحفيز ذاكرتك ومشاهدة الفيلم الذي يُعرض في إحدى الغرف لتطابقيه مع الواقع أمامك. ستتأثرين فعلاً عندما تشاهدين فيلماً أيقونياً عمره عشرات السنين، ثم تجدين نفسك فجأة في مكان التصوير. زيارة لا بد منها.


تجربة العمر: المطبخ الصقلّي

يزخر المطبخ الصقلّي بالأطباق الشهية، فالأسماك لا بد منها في الجزر، والمعكرونة والبيتزا لا بد منهما أيضاً في إيطاليا، أما المأكولات المحلية التي أنصحك بها فهي:

Granita: وهي نوع من البوظة، تقدّم مع “البريوش” (نوع من الخبز) وبنكهات عدة كان أفضلها بالنسبة إليّ نكهة اللوز.

Cannoli: وهي نوع من الحلويات، يتطلب عجنها حوالى 6 ساعات لتصبح جاهزة، أما الحشوة فتتألف من جبنة ريكوتا وسكر وقرفة. سوف تعشقينها...

Capponata: عبارة عن خضار مطبوخة بطريقة صقلّية سوف تطلبينها دائماً إذا كنت من محبّات الطعام النباتي.

Panelle: أو “همبرغر الحمص” كما أحببتُ أن أسمّيها، ويبدو أنها من أصول عربية تقدّم بالسندويش مع سلطة.

Parmigiana: لا بد من أنك جرّبت هذا الطبق قبلاً، وهو مؤلف من الباذنجان والجبنة والطماطم إنما نكهته تختلف في صقلية. صدّقيني!