في معرض استيعادي: إعادة اكتشاف «نور» محمود بقشيش

القاهرة - طارق الطاهر 13 يناير 2019
بعد 17 عاماً على رحيل الفنان التشكيلي الكبير محمود بقشيش (1938– 2001)، استطاعت زوجته القاصّة والأديبة هدى يونس، أن تعيد أعماله إلى جمهوره مرة أخرى، بأن أقامت معرضاً استيعادياً ضخماً في مركز سعد زغلول الثقافي، التابع لقطاع الفنون التشكيلية، ولم تكتفِ في هذا المعرض بعرض لوحات تسرد الملامح الأساسية لرحلته المتفردة، إنما قدمت أيضاً لوحات تُعرض للمرة الأولى.


لم تكتفِ هدى يونس بتقديم هذا المعرض، بل قدمت نصاً أدبياً في غاية الإتقان، توقفت فيه عند ملامح بقشيش كما رأتها وعايشتها وشاهدت انعكاساتها في أعماله، وتقول: “على تواضعه يعرف قدر نفسه، هدفه الانتصار لمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة التي يؤمن بها، وامتلأ قلبه بعدالة ماعت، ويطارد ضوؤه الظلال المراوغة، يتواصل الموروث ويتداخل بالحاضر، ويتشكل عالمه اللامرئي ويجسد إحساساً كونياً وميتافيزيقياً وواقعياً، وحين تتسرّب الأحزان من انعدام الموضوعية ومحدودية الرؤية، تأتي الكلمة والخط بهما يستشرف المستقبل ويقاوم... إبداعه لا يحمل غزلاً أو نفاقاً، مستنداً إلى التحليل وربطه بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حراً بلا قيود أيديولوجية، لا يحتمل الانضمام الى حزب أو جماعة تتشابه في تحليل النصوص، رافضاً بثقة الانسياق إلى العقل الجمعي والرأي الواحد، متحمّلاً تبعات اختياره الحر. يناصر حرية الفنان ورحابة أفقه، وتحرّر تماماً من سطوة المصالح وتبعاتها بلا تردد”.

المعرض يضم رحلته المبهرة في استخدام الضوء وانعكاساته على سطح العمل، سواء كانت وجوهاً لبشر أو بيوتاً أو رمالاً وجبالاً، هذا النور الذي قال عنه محمود بقشيش: “إنني من الفنانين الذين سكن أرواحهم ولوحاتهم النور، وتناسل الضوء في لوحاتي من نقيضه العتمة، كنت ألمحه في صباي من نافذتي وكانت تطل على البحر المتوسط في مدينتي بورسعيد... كان ضوء النار يتسلل مضطرباً عبر مشقوق خيام عمال التراحيل، ونقاط الضوء التي تشع من البواخر البعيدة وهي في طريقها إلى الميناء، ثم التحقت بكلية الفنون الجميلة، وتحققت في الذاكرة وذكريات الضوء، ثم يعود عارماً بعد عقدين من الزمان بلا سبب ظاهر عندي، وظلت لوحاتي يتقاسمها الضوء والعتمة... ضوء بغير مصدر يصارع العتمة”.

والتفتت الناقدة الكبيرة فاطمة علي إلى هذا الصراع في لوحات بقشيش بين النور والعتمة، فقدمت تحليلاً فنياً لأعماله في هذا الاتجاه قائلةً: “على أرض لوحات الفنان محمود بقشيش امتدت عملية بحثه عن كنه العتمة لسنوات طويلة، لم يكن يبحث خلالها في ضوء الشمس، بل عن آثار بقع خافتة قادمة من أغوار العتمة الليلية التشكيلية... ظل سنوات عمره يجري بفرشاته بحثاً عما وراء النور الليلي الذي يبتلعه الظلام في يسر، ومن دون أن يدرك أحد أو هو نفسه أن هناك شيئاً مفقوداً، حتى جاءت اللحظة الفارقة بين النور والإظلام في حياته، حين انتُزعت منه فرشاته وألوانه وأصبح طريح الفراش في غرفة الإنعاش لأكثر من شهر، عندها اتصلت نقاط النور المتناثرة حوله، وتحولت الى أطلال من النور هلّت على حياته داخل غرفة الإنعاش... وهلّت أيضاً على لوحاته فأدخلتها غرفة الإنعاش لتخرج بعد ذلك مغمورةً بضوء النهار، وبعد الشفاء أدرك بسهولة وكأمر طبيعي أن لوحاته تواصلت ومأساته امتلأت نوراً. اقتربتُ كثيراً من لوحات بقشيش، فهي جزء من كل منا، وأيضاً أحذرها لأنها لوحات من خيوط النور والنار”.

أما الدكتور شاكر عبدالحميد وزير الثقافة السابق فيرى أن محمود بقشيش مر بمراحل فنية مختلفة، ركز بعضها على استلهام الطبيعة، وبعضها الآخر على استلهام قضايا الواقع الاجتماعي، وبين الحين والحين يرتحل إلى ذاته في تأملات أقرب إلى تأملات المتصوفة.

يضم المعرض كذلك مجموعة من لوحاته في فن الرسم، وفي عدد منها استخدم الأسود والأبيض في التعبير عما يريد، لا سيما أن لبقشيش وجهة نظر خاصة في لوحاته التي يستخدم فيها هذه التقنية الفنية.

وتكشف إحدى صفحات الكتالوغ المصاحب للمعرض تجربة محمود بقشيش، كما كتبها بنفسه، وفيها يبين كيفية قراءته للوحات الفنانين، وانعكاس هذه القراءة على أعماله، فكتب: “ليس هناك طريق للإبداع، فمن الفنانين من يستعد لعمله الفني بالدراسات الأولية، ومنهم من لا يحفل بهذا التمهيد، ويُلقي بنفسه في مغامرة مع المجهول، ومن الفنانين من يحتشد للوحته كما لو كان يستعد لشنّ حرب على أعداء مجهولين أو معلومين. في المعارض والمتاحف قد تلتقي بلوحات متقنة الصنع، محبوكة التكوين، ورغم ذلك تكون فقيرة في عطائها الروحي، فلا تحرك في رائيها شيئاً في أعماقه. أذكر في زياراتي المتكررة إلى اللوفر، أن كانت تستوقفني ضمن عديد من اللوحات المهمة، لوحة رجل للفنان الفرنسي فيليب دي شامبين، أحد فناني القرن السابع عشر. كانت تستوقفني في اللوحة براعة مذهلة في وصف التفاصيل الدقيقة، والملامس المختلفة لعناصر اللوحة والتكوين بالغ الإحكام، ورغم ذلك فإن الموناليزا هي التي سكنت قلبي منذ لحظة اللقاء الأول، بسبب ذلك الفيض الروحي الذي يشع منها وتفتقده لوحة “شامبين” الرائعة. وبالنسبة إليّ، لا أدخل إلى اللوحة بخطة مسبقة، بل أدخلها بريئاً كطفل... وأنتظر من سطح اللوحة الأبيض النظيف أن يلهمني بموجوداتي الفنية التي لا تلبث أن تتسلل من ذاكرة مسكونة بالبحر وبالكثبان الرملية والأطلال والعمائر الفطرية وأحزان الحرب والتخلف، ويُظهر الضوء عاصفاً مرة ومتسللاً مرة أخرى، ساعياً في كل الأحوال إلى تجاوز تلك العوائق، وأجدني وقد تقمّصتني روحان متعارضتان، روح صائد اللآلئ، وروح المتعبّد الزاهد من أجل سلامة روحه وسلامة أرواح الآخرين في زمن مات فيه الفنان صاحب الرسالة، واحتل مكانه الفنان رجل الأعمال والناقد السمسار”.

الفنان محمود بقشيش من مواليد 1938 ورحل في عام 2001، وحاصل على بكالوريوس في الفنون الجميلة 1963، وأقام أول معارضه الفردية عام 1979 بعنوان “قلم رصاص”، وتوالت معارضه، فضلاً عن مشاركاته في المعارض الجماعية التي بدأت منذ 1963. وتقديراً لموهبته، حصل بقشيش على منحة من الحكومة الفرنسية، وكذلك على منح التفرغ المصرية، وله العديد من المقالات والكتب في مجال الفن التشكيلي، كما حاز الكثير من الجوائز، منها: جائزة صالون الربيع 1986، جائزة الدولة في الرسم 1987، جائزة التحكيم في بينالي القاهرة الرابع في الرسم 1992، وله العديد من المقتنيات داخل مصر وخارجها.