مراسلة حربية وطبيبة وممرضة.. أمهات يتحدّين ظروف أعمالهن الصعبة من أجل أطفالهن

فرح جهمي - فرنسا 20 مارس 2019

روناك وأليس وسارة... سيدات اخترن إلى جانب عملهن الأساس كأمّهات، أعمالاً صعبة تحتاج إلى بذل الكثير من المجهود الجسدي والنفسي، إلى جانب القوة والصبر. تحاول كلٌ منهن تنظيم وقتها بين عائلتها وعملها بشكل يسمح لها بتخطي كل العقبات والصعوبات التي قد تواجهها، والنجاح في الاثنين معاً. لكل فرد في المجتمع مواهب ومؤهّلات مهنية تميّزه عن الآخر، وكلها مهمة للنهوض بالمجتمع ككل، فالبعض ينجح في مهنة معينة ويتفوق فيها، والبعض الآخر يفشل، وفي الحالتين تبقى المهنة، لا بل الرسالة الأصعب هي الأمومة، فكيف إذا كانت هذه الأم عاملة وعملها تحفّه المخاطر الجسدية والصحية والنفسية؟!


لم يعد الكثير من المهن حكراً على الرجال، بحيث أصبحت المرأة اليوم تشارك الرجل ليس في الأعمال المكتبية فحسب، وإنما تؤازره أيضاً في المعارك. "لها" التقت الكردية روناك شيخي، المراسلة الحربية في شمال سوريا فتحدّثت عن تفاصيل حياتها الصعبة وتضحياتها، وعن مقدرتها في الربط بين عملها الأساس كأمّ وشغفها بعملها في القناة، قائلةً: "حين أذهب الى الجبهة بهدف التغطية الإعلامية، أشعر بالخوف ليس من الموت أو من أن يصيبني مكروه، بل على طفليّ. فقبل خروجي من المنزل، وغالباً ما يكون ذلك عند الفجر، أنظر إلى طفليّ وأخطف منهما قبلة وأمشي من دون أن أزعجهما. إنه فعلاً لشعور صعب أن تقصد مكاناً ما وأنت تعلم مسبقاً أنك قد لا ترجع منه".

وتضيف مراسلة تلفزيون "أخبار الآن": "لا يمكنني الفصل بين أمومتي وعملي الذي أحبّه، فرغم أن التغطية الإعلامية في ظل المعارك الدائرة تعرّضني للخطر، إلا أنني إنسانة طموحة وأسعى إلى تحقيق أحلامي. لذا، أحاول أن أقنع نفسي بأنه لن يحصل لي أي مكروه أثناء قيامي بعملي وأنني سأعود إلى عائلتي سالمة".

وتنتقل روناك للحديث عن أمومتها، فتقول: "لي طفل رضيع عمره 5 أشهر فقط، وأتألم كثيراً لحاله إذ اضطر بسبب عملي للابتعاد عنه لساعات طويلة في اليوم في وقت هو في أمسّ الحاجة لعطفي وحناني. وخلال تغطيتي للأحداث في سوريا، فكّرت مراراً بترك العمل للتفرّغ لرعاية طفلي، لكنّ صوتاً في داخلي يقوّيني ويشجعني على متابعة مهمّتي كأم وكمراسلة حربية".

وتتابع حديثها بتأثر قائلةً: "لا أنسى أمومتي أبداً. وخلال تغطيتي للأحداث قبل أسابيع في منطقة الباغوز، آخر معاقل تنظيم "داعش" في سوريا، واجهت الكثير من المواقف الصعبة، ولعل أصعبها رؤيتي لطفل حديث الولادة يبكي جوعاً لعدم توافر الحليب، فتذكّرت طفلي وفكرت في إرضاع هذا الطفل، ولكنني تراجعت خوفاً من أن يسبب لي ذلك مشاكل في ما بعد. الأطفال لا ذنب لهم، وكلما رأيت طفلاً خلال تغطيتي للأحداث، أتذكر طفليّ".

وتستطرد روناك موضحةً: "العيش في ظل الحرب صعب وقاسٍ، وعملي كمراسلة حربية محفوف بالمخاطر، حيث من الممكن أن ينفجر لغم أرضي بالقرب مني، أو أصاب بشظايا القذائف التي تتساقط عشوائياً حولي، أو أكون هدفاً في مرمى القنّاص".

وتختتم روناك حديثها مؤكدةً: "المراسل الحربي يختلف عمله عن المراسل العادي، وهو شبيه بعمل أي مقاتل في ساحة الحرب. هذا فضلاً عن تلقّينا التهديدات من جهّات معينة بسبب التقارير الإخبارية الحربية التي ننشرها، والتعليقات السيئة التي تصلنا وتؤثر سلباً فينا".

بعدها حاورت "لها" الممرضة الفرنسية أليس باسكال، فتحدّثت بدورها عن الصعوبات التي واجهتها بعد إنجابها طفلها الأول بسبب بقائها لفترات طويلة في المستشفى، وصعوبة إحضاره إلى ذاك المكان الذي يعجّ بالبكتيريا والفيروسات والأمراض الموبوءة. وتقول أليس: "كنت أُضطر أحياناً إلى ترك طفلي الصغير في الحضانة من الثامنة صباحاً حتى الخامسة والنصف عصراً، وأعاني أوجاعاً جسدية لا تُحتمل بسبب الحاجة إلى إرضاعه، ما اضطرني للحصول على إجازة من العمل، لأرتاح وأُلملم أنفاسي أولاً، ولأهتم بطفلي ثانياً".

وتشير أليس إلى أنها بعد إنجابها طفلتها الثانية، عاشت فترة صعبة أيضاً، لأنها لم تتمكن من إرضاعها بانتظام بسبب الاختلاف في دوام عملها، ما بين النهار والليل، لذلك كانت طفلتها تمرض باستمرار بسبب العدوى التي تلتقطها من باقي الأطفال في الحضانة، فالرضاعة في الأشهر الأولى من عمر الطفل تقوّي لديه جهاز المناعة، وهذا ما لم يكن متاحاً لطفلتها، وهي لشدّة خوفها عليها، استغنت عن عملها من أجل التفرّغ لرعايتها. لكن بعد دخول الطفلة الى المدرسة، عادت أليس لممارسة عملها كممرضة، وتؤكد أنها تستخدم دائماً المعقّمات في منزلها، وتغسل زي التمريض على حِدة، تحسّباً لنقل أي فيروس من المستشفى قد يفتك بعائلتها.

وكان أيضاً لنا لقاء مع المصرية سارة كمال التي تحدّثت عن الصعوبات التي تعانيها بسبب عملها كطبيبة متخصصّة بالأشعة السينية، فبسبب حبّها لمهنتها، وعدم رغبتها في تركها، امتنعت عن الحمل لأكثر من 6 سنوات بعد زواجها.

وتقول سارة: "اضطررت إلى ترك عملي قبل فترة الحمل، لأن الأشعة تؤثر سلباً في صحة الجنين وتعوّق نموّه وتُحدث لديه تشوّهات خلقية، وأكبر صراع عشته في تلك الفترة هو رغبتي بأن أكون أمّاً والاستمرار في عملي في الوقت نفسه. غير أن عاطفة الأمومة تغلّبت على عشقي لعملي، ولذلك تخلّيت عنه لأكثر من 4 سنوات متتالية، أنجبت خلالها 3 أطفال، وهذا أرهقني جسدياً وأُصبت بفقر الدم وانخفاض حاد في معدل الكالسيوم في الجسم، مما اضطرني الى تناول الأدوية والمكمّلات الغذائية إلى أن استعدت نشاطي وعدت الى مزاولة عملي".

وفي ختام حديثها، تؤكد سارة أنها اختارت التخصّص في مجال الأشعة في الجامعة، من دون أن تفكر بمسألة الحمل والإنجاب، لأنها كانت لا تزال عزباء حينها، وأن هذه المهنة صعبة وجعلتها تعيش صراعاً نفسياً كبيراً، فضلاً عن الضغوط الاجتماعية التي أدت الى تأخّر حملها لسنوات، ومع ذلك لم تضعف يوماً وتغلّبت على كل الصعاب ونجحت في العودة إلى عملها.

صحيح أن عمل المرأة بات اليوم من الأولويات، نظراً للضائقة المالية التي تعانيها العائلات بسبب الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد، لكنّ لعمل المرأة أهميةً معنوية كبيرة لبناء شخصيتها القوية والواثقة، ولتحظى بنوعٍ من الاستقلالية المادية التي تجعل نظرتها لنفسها وللحياة مختلفة تماماً، لأنه يحرّرها من القيود التي تجعلها تابعة ومرتبطةً بمن يتولى الإنفاق عليها. وصحيح أن العولمة الثقافية سمحت باختفاء تصنيفات المهن على معيار الذكورة والأنوثة بشكل شبة نهائي، لكن المرأة تشكّل نصف المجتمع وعليها أن تساهم في بنائه مثل الرجل، فالمعيار الوظيفي بات في أغلب الأحيان يقوم على الكفاءة والعلم والقدرة الجسدية، ومع ذلك لا يعيش الرجل الصراع الذي تعانيه المرأة ما بين الاهتمام بعائلتها وممارسة عملها الذي يعود بالنفع على الجميع.