جواد الأسدي يُشعِل 'سيجارة' بول شاوول

المهرجان القومي للمسرح المصري, محمود درويش, المخرج العراقي جواد الأسدي, بول شاوول, عبدو شاهين

04 مايو 2010

في «لماذا تركت الحصان وحيداً» قام جواد الأسدي بمسرحة أوّل نصّ شعري كإهداء منه إلى روح الشاعر الصديق محمود درويش، إلاّ أنّه ظلّ في عمله المسرحي ذاك على مسافة من نصّ درويش الذي استند عليه مرّكزاً على ثيمة «الموت» وإنّما بأسلوب «أسديّ» أكثر منه درويشياً. أمّا في «دفتر سيجارة»- العرض الذي قدّمه المخرج العراقي على مسرحه البيروتي «بابل»- استكمل الأسدي تحيته المسرحية إلى صديق شاعر آخر هو بول شاوول مستنداً على كتابه الذي يحمل عنوان العرض نفسه، إلاّ أنّ الأسدي بقي أميناً في قراءته لنصوص شاوول أكثر من قراءته لقصائد درويش. ولا عجب في ذلك لأنّ القصيدة أصلاً تحمل في جوهرها معاني ورموزاً ودلالات وتأويلات أضعاف النصّ النثري العادّي.
بدا عرض «دفتر سيجارة» الأكثر هدوءاً وإيجازاً بين عروض الأسدي، إذ لم يمنحه المخرج كعادته استعراضاً تعبيرياً للحركة الجسمانية والطاقة الجسدية والنفسية، بل ارتأى اختيار النصوص الأكثر قدرة على ترجمة روحية شاوول الذي حضر العرض دون أن يشعر- على أغلب الظنّ- بأيّة غربة بينه وبين شخصية الشاعر التي تُمثّله على الخشبة.
السينوغرافيا التي اختارها الأسدي فقيرة وإنما مُكثّفة بالمناخ الضبابي الذي تتركه بطلة شاوول والأسدي في هذا العرض «السيجارة». فسينوغرافيا جواد الأسدي طالما عُرفت بمناخها الدخاني الذي شكّل ميزة عروضه وفي شكل خاص «حمّام بغدادي»، إلاّ أنّ الدخان الذي تصاعد في هذا العرض كان أقرب إلى الجوّ التشيخوفي كما ذكر المخرج نفسه. أمّا السيجارة فقد تجاوزت في هذا العرض كما في نصّ شاوول معناها الكلاسيكي المرتبط بفعل التدخين لتُصبح الشاهدة على حياة، حياة شاعر عرفت الصعود والهبوط والنجاحات والإخفاقات والحبّ والمرض والخوف والحرب. وصارت أيضاً مرآة، مرآة المدينة بأزقّتها ومقاهيها وسكّانها وروّادها ومحبيّها...
بدأ العرض المسرحي عندما أشعل الشاعر الذي لعب دوره الممثّل عبدو شاهين سيجارته الأولى على أنغام الكمان الذي عزف عليه نبيه بولص وانتهى وسط الأسود الذي أطبق بأنيابه على كلّ شيء ما عدا وهج السيجارة المشتعلة، ليقول المخرج بذلك ما لم يقله الشاعر في كتابه الذي حوى الكثير من ذكرياته ومواقفه وتجاربه. فالسيجارة هي إحدى تجليّات بيروت التي تشتعل مرّة لتُطفأ مرّة أخرى والتي تموت دوماً لتولد من جديد. إنّ السيجارة التي أبقاها المخرج مشتعلة في نهاية عرضه هي نفسها بيروت التي بقيت حيّة رغم كلّ الغيوم السوداء التي لبّدت سماها في فترات زمنية متلاحقة، لأنّ بيروت هي الوجه المستتر في لفافة شاوول والمكشوف على خشبة الأسدي الذي اختار لمؤديّة العرض نسرين حميدان أن تُغنّي بصوتها الصوفيّ العذب أجمل الأغنيات المدنية وتُبدع في أغنية فيروز «بالقهوة البحريّة اطلّع بإيديك وتشرب من فنجانك وإشرب من عينيك»... فالسيجارة في مسرح الأسدي هي كما في كتاب شاوول «ذاكرة متجوّلة» تقتفي في ذاتها كلّ الأزمنة والأمكنة لتُعيد قراءة الحياة عبر دخانها المنبثق نحو الأفق اللامتناهي.