هبة القوّاس تحمل الجمهور في رحلة صوفية

الغناء, مهرجان بيت الدين, دار الأوبرا المصرية, هبة قوّاس, الصوفية

07 يوليو 2010

السماء ذرفت نداً والأعين ذرفت أدمعاً... الأبدان ارتعشت نشوةً والأشجار ارتعشت برداً... الشفاه ابتسمت اندماجاً والقمر ابتسم فرحاً... إنّ حالة تماهي الإنسان بالطبيعة ليلة افتتاح مهرجانات بيت الدين الدولية كانت نتيجة طبيعية للمناخ الصوفي.
في تلك الليلة الإستثنائية في تميّزها والتي احتفت بميلاد مهرجانات بيت الدين الخامس والعشرين، كانت المؤلفة الموسيقية والمغنية الأوبرالية اللبنانية هبة القوّاس هي الشمعة التي أضاءت الحفل بأنغامها العذبة وطلتّها المشرقة وصوتها النقيّ. فهي استطاعت إلى جانب الأوركسترا الفلهارمونية بقيادة المايسترو وليد غلمية أن تستفيد من ذاك الإطار التاريخي الملهم في قصر بيت الدين في أعالي جبل لبنان لتأخذ الجمهور الذي قصدها من كلّ أنحاء لبنان في رحلة موسيقية صوفية خالصة على متن أداء أوبرالي متقن وصوت ملائكي دافئ.
افتُتح الحفل بمقطوعة موسيقية لبيزيت عزفتها الفرقة المؤلفة من أكثر من 120 عازفاً وعازفة بقيادة الدكتور غلمية، ومن ثمّ صدح صوتٌ ملأ الأمكنة واخترق الأزمنة وولج القلوب ولم يُعرف مصدره إلى أن اعتلت هبة القواس بفستانها الأحمر والفضيّ المسرح الشهابيّ الكبير لتعلن عن بداية موفقّة لمهرجان لبناني كرّس مكانته بين المهرجانات الدولية على مدار ربع قرن.

استهلّت القوّاس برنامجها بأغنيتين انكليزيتين معروفتين لجير سوين «موسم الصيف» ولأندرو ليويد ويبير «ذكرى»، ثمّ تابعت غناءها الأوبرالي الذي يجسّد حلمها القديم في تعريب الأوبرا وحمل لغتها العربية بصوتها السوبرانو البديع إلى أرجاء العالم كلّه، فأدّت قصائد من تأليفها الموسيقيّ لأكثر من شاعر مثل الحلاّج (يا نسيم الريح) وعبد العزيز خوجة (أسرى بقلبي) وهدى النعماني (وتحبنّي). والحصّة الكبرى من القصائد كانت من نصيب الشاعرة اللبنانية الشابة ندى الحاج التي غنّت لها ثلاث قصائد من أجملها «أشممت عطري»، أمّا  مفاجأة الحفل فكانت قصيدة «أنت أنا» لكمال جنبلاط. وبدا غناء القوّاس الأوبرالي العربي أقرب إلى ذائقة الجمهور الذي تفاعل معها ودخل في حالة من الوجد الصوفي، فدموع البعض خانتهم وسالت على مُقلهم من فرط التأثّر والإنفعال الداخليّ. إنّ القصائد بمعظمها صوفيّة الجوّ، تحرّك بكلماتها القلوب في أسلوب روحاني خالص يسرقك من زمان تعيشه هو أبعد ما يكون فيه الإنسان عن روحه.
وفي كلّ مرة كانت تترك هبة المسرح للفرقة الفلهارمونية لكي تعزف أجمل المقطوعات الموسيقية بتوجيه من الأستاذ وليد غلمية، كان الجمهور يتفاعل مع عودتها في شكل أكبر وكأنّ غنائها كان يزيدهم ظمأً بدل أن يرويهم وهم المتعطشون إلى هذا النوع من الفنّ الذي تتفتّح له الروح ويمتلئ به الفؤاد.

وبالرغم من أنّ النمط الغربي يطغى على الموسيقى التي ألّفتها المطربة إلاّ أنّ صوتها الأوبرالي يكتنز في طيّاته نبرة عربية تمثلّت جليّاً في الآهات التي اعتمدتها القوّاس في غنائها في شكلّ مستمرّ، وهذه «الآهات» التي انطلقت بحريّة كبيرة من حنجرة المغنية وكأنّها تتتابع بحركات دائرية متكرّرة ذكّرتنا برقصة «التنورة» الخاصة بالمتصوفين الذين يرون في تلك الدوائر «رحلة البدء والمنتهى» في هذه الحياة المستديرة في معناها ومبناها.
قدّمت هبة القوّاس مقطوعة «بيت الدين» الموسيقية كهديّة إلى هذا المهرجان بمناسبة مرور ربع قرن على ولادته. وأكدّت في كلمتها التي ألقتها في النصف الأخير من الحفل أنّها سعيدة بأن تقف بعد عدد كبير من الجولات العربية والعالمية الناجحة على مسرح «بيت الدين» وهي التي رفضت كلّ العروض المغرية في الخارج واختارت أن تحمل لغتها وثقافتها وموسيقاها إلى العالم لتُعطي وطنها الأم فرصة أن يُصدّر بعضاً من الجمال والإبداع الذي يملكه بدل أن يستورد كلّ شيء من الغير.
من ثمّ ختمت الفرقة الفلهارمونية بقيادة المايسترو غلمية الذي طالما حمل موسيقى بلاده حلماً جميلاً في خياله وجال بها العالم بمعزوفات من الربيرتوار العالمي كان أروعها «كسّارة البندق» لشيكوفسكي و«الأمير أيغور» لبيرودين.