شقة الفضاءات التفاعلية في لندن: الفواصل تتحول أدوات تواصل!

باريس - نجاة شحادة 13 أبريل 2019
ليس في هذا العنوان أي رغبة في توليد الدهشة، بقدر ما فيه من انعكاس لواقع يدعو الى التأمل. ليس في تنوع المواد ونبالتها فقط، ولكن في طرق استخدامها، وبالتالي مزاوجاتها البارعة والتناغم النقي الذي ينتج من هذه المعادلات البالغة الدقة والتي تتطلب خبرة ومهارة تبدأ من الدراسة على الورق لتترجم في حيز الواقع عملاً في منتهى البراعة والجمال. غير أن الأمر لا ينتهي هنا عند هذا الحد.


ففي هذه الشقة الأنيقة، التي تنتمي الى الطراز الكلاسيكي المعاصر، ثمة مفاهيم جديدة تتولد لتضفي المزيد من ملامح المعاصرة التي أصبحت تحكم المشهد الزخرفي بصرف النظر عن انتمائه الى طراز معين أو أسلوب محدد. ذلك أن الحياة العصرية تفرض وبكثير من الإلحاح متطلباتها لئلا نقول شروطها. ولا تبدأ هذه المتطلبات، خصوصاً في المدن الكبيرة بظروف المساحة المحدودة فقط، بل هي تتعلق أيضاً بما يمليه الواقع التاريخي من ضرورات الحفاظ على الهياكل الهندسية التي تشكل جزءاً من هوية المدينة وتراثها وتاريخها. ومثل هذا الأمر يفرض ابتكار وسائط جديدة تراعي خلق توازن بين الفضاء الداخلي والفضاء الخارجي، من أجل ردم الفجوة التي تنتج من التقادم والمستجدات.

نحن في شقة لا تتعدى مساحتها الـ 260 متراً مربعاً، تقع في أحد أرقى أحياء مدينة الضباب، لندن. وهنا أيضاً يمكننا ملاحظة الحضور البارز للخشب بكل تشكيلاته، وللمرايا بكل أبعادها، وللرخام بكل نضارته.

ولكن في البداية، ينبغي القول بأن أعمالاً كثيرة تطلبتها هذه الشقة، وهي أعمال تطاول الهيكل الهندسي بالتحديد. فقد كان من الضروري إقامة بنية مناسبة لمتطلبات الحياة المعاصرة، وخصوصاً في القسم الليلي من الشقة. فكانت ورشة هدم وبناء، نجمت عنها ثلاثة أجنحة للنوم بكامل ملحقاتها من صالات حمّام وغرف ملابس... وهكذا يمكننا بوضوح ملاحظة النتيجة المدهشة التي أسفرت عنها هذه العملية وما تلاها من تحقيق للتناغم والتوازن بين مجمل مساحات الشقة وأركانها.

في المدخل تم استحداث جدار فصل خشبي شغلت مرآة كبيرة مؤطرة كل مساحته، مما أضفى على المساحة أبعاداً بصرية دعمت قيمها الجمالية والعملية، وجعلت من المدخل عنواناً رئيساً للمشهد في الشقة كلها. هنا يمكننا أن نتعرف على المواد الرئيسة المستخدمة داخل الشقة، حيث الخشب والمرايا والرخام تجتمع في هذه المساحة لترسم خريطة طريق للمسار الزخرفي الذي تم اعتماده، غير أن ثمة ملامح غير مادية يمكننا قراءة مآلاتها، مثل تلك التي تتمثل بالفضاءات التفاعلية، حيث إن الجدار الخشبي الفاصل هو في طبيعته لا يعني الفصل بقدر ما يتوخى الوصل، بل يلعب دور الموزع بين القسم النهاري والقسم الليلي في الشقة، إذ يقودنا الى صالات الاستقبال التي تتشكل كأركان منفصلة ومتصلة في الوقت ذاته. ففي الصالة الرئيسة نجد كنبات كبيرة وثيرة أمام مدفأة محاطة بأُطر برونزية هي نفسها عناصر رئيسة في جدار تحول الى لوحة كبيرة مؤطّرة بخشب داكن اللون، سيتكرر حضوره في أماكن وأركان عدة... هذا ما «يخبرنا» به مدخل الشقة. في الركن المقابل من هذه الصالة، نجد ركن الطعام بطاولته المستديرة بمسطح خشبي داكن يشكل محاكاة لإطار جدار المدفأة المقابل، وتحيط بهذه الطاولة ستة كراسٍ خشبية منجّدة بالجلد الفاخر بلون «السومون». وتتوزع أكسسوارات هذه الصالة بإتزان واضح، مما يضيف بعض اللمسات الملونة الى الجو العام، والذي يغلب عليه اللون البيج فبدا أحادي اللون ولكن برزانة واضحة، تدعمها أرضيات من الخشب «الباركيه» بلون فاتح يُظهر أدق التفاصيل الزخرفية المكونة لهذه الصالة. وعبر أبواب انزلاقية (جرارة) في جدار خشبي آخر، يفصل بين الصالة الرئيسة وصالة ثانية، يمكننا أن نعبر الى مساحة جديدة مخصصة للجلوس أمام التلفاز وفيها ركن للمكتب، وفي هذه الصالة يتبدى الحضور الطاغي للخشب الذي يغطي الجدران ويمنح المكان حميمية مؤكدة. الألوان هنا لا تبتعد عن ألوان الصالة الرئيسة بل هي مستمدة من متغيراتها. وكذلك الأثاث الوثير والأكسسوارات المناسبة والتي تضفي جواً خاصاً من خلال خيارات اللوحات المعلقة على الجدران.

في غرفة النوم الرئيسة يتعاظم حضور المرايا، حيث نجد مرآة عملاقة مؤطّرة بخشب داكن، تشكل امتداداً لرأس السرير المؤطّر أيضاً بخشب داكن، لتضيف أبعاداً بصرية الى الغرفة وشعوراً بالبريق. وفي هذه الغرفة، نجد قبالة السرير أثاثاً مدمّجاً بالحائط يكشف عن التلفاز أو يخفيه، بالإضافة الى غرفة ملابس تنفصل وتتصل بواسطة باب انزلاقي رائع. أما صالة الحمام فهي مثال للاستخدام الرائع لرخام «كاراري» الشهير.

غرفة النوم الثانية، تبدو مكاناً بالغ الرصانة، برأس سرير منجّد «كابيتونيه» ووسائد وأغطية تتناغم مع ألوان محتويات الغرفة وأكسسواراتها. فنجد أنفسنا في أجواء مناسبة للتأمل وقضاء ليالٍ هادئة ومريحة. بينما الغرفة الثالثة، تتضافر محتوياتها من أجل خلق أجواء فيها بعض الحركية ولكن بإتزان ورقي، حيث نجد حضوراً مفاجئاً للمسات لونية من خارج العائلة اللونية للشقة، فحضور اللون الأزرق وإن بلمسات مدروسة وأنيقة، مثلما هو الأمر في رأس السرير، أو في بعض الوسائد، أو في قواعد عناصر الإضاءة، هذا الحضور لم يكسر الإيقاع الهادئ الذي يسود أجواء الشقة بشكل عام.

ويمكن القول إن الرخام هو سيد المكان في صالات الحمام كلها، ولكن أيضاً سنجده في المطبخ يشرق ببياضه ويضفي جواً من النظافة، يجعل من الوقوف في المطبخ بين الخطوط النقية لحظات متعة وانشراح.

الشقة تبدو في الواقع أكبر بكثير من مساحتها، وذلك بفضل الألوان المشرقة التي تم اختيارها، ليس فقط لجدران الشقة، إنما أيضاً للأرضيات، إن كانت من الخشب «الباركيه» الناصع، أو للموكيت بألوانه الفاتحة في غرف النوم، أو للرخام الأبيض في صالات الحمام أو الممرات المتفرعة. وقد أضفت خيارات عناصر الإضاءة في كل الأركان المزيد من السحر والجاذبية على المكان، بالإضافة الى استثمار الأضواء المتسربة من الخارج عبر نوافذ كبيرة كما في الصالة الرئيسة... كلها عناصر تشكل علامات فارقة في أعمال «تايلور– هوز» الهندسية والزخرفية على حد سواء.