ليفربول: Liverpool خبايا الشوارع وحكايا مختلفة بالغرافيتي

لندن- ميشال زريق 20 أبريل 2019
لم تكن هذه الزيارة إلى أوروبا كما سابقاتها، فكنتُ على علمٍ بأنّ زيارة ليفربول Liverpool هذه المدينة الإنكليزية العريقة، سوف تترك في ذاكرتي، معلوماتٍ وأخباراً وأسراراً عن حكايا الناس والسكان وما عاشوه ولا يزالون، واستطاعوا ترجمته في رسوم الغرافيتي أو الفنون المعمارية أو تجميل بعض الأماكن السياحية وجعلها أكثر جذباً للسيّاح، لا سيّما أنّ المدينة من أكثر المدن السياحية في إنكلترا، فهي تجذب أكثر من 100 مليون سائح سنويّاً بسبب تنوّعها الثقافي والجغرافي ووجهها الاجتماعي- الاقتصادي والتاريخي العريق... فالإجازة مهما كانت مدّتها قصيرة، تستحقّ أن تمضيها في مدينةٍ كليفربول.


أصل الحكاية

رغم خروجنا من مطار هيثرو في ساعة الذروة اللندنية، ورغم بُعد المسافة بين ليفربول ولونغفورد والتي بلغت حوالى ساعة وأربعين دقيقة، لن تملّ من رؤية الشوارع والمارة، وهي المرّة الأولى التي يتسنّى لي فيها معاينة العديد من الشوارع الشعبية وأخرى فسيحة، وأدقّق في متاجرها والحوانيت الصغيرة، وبتنقّل الناس وسط الأمطار، فيكون الوصول إلى مكان المبيت فندق ANDAZ Liverpool بمثابة استراحة محارب حتى نبدأ يومنا الأول في المدينة بنشاطٍ، إذ على جدول الزيارات، جولةٌ فنّية لأكثر من 3 ساعات، سيراً على الأقدام نكتشف من خلالها الوجه الآخر للمدينة العريقة، التي يعني اسمها، بحيرة مياه طينيّة، وهي ثاني أكبر مدينة في بريطانيا، وتتميّز بأنشطة ثقافية واسعة، وتُصنّف وفق اليونيسكو موقعَ تراثٍ دولياً. فكان لا بدّ من جولةٍ صغيرة في محطة المترو Underground قبل أن تُقفل المتاجر أبوابها، والعودة بعدها لاستكشاف الفندق الأثري البناء والعصريّ المحتوى، الذي سنعود إلى توصيفه في جولةِ اليوم الأخير قبل المغادرة، ولكن كان لا بدّ في ختام ذلك اليوم من التوقّف في Rakes لتناول العشاء وسط ديكورات مذهلة يطغى عليها اللون الأحمر والخَضَار والفسيفساء على الواجهات الزجاجية الضخمة، فضلاً عن تجربة بعض الأطباق النباتية بركيزة الحمّص كمكوّن أساس.

الوجه الآخر للمدينة

رغم برودة الطقس في ليفربول، لكن في التنقّل سيراً على الأقدام، في الصباح الباكر متعةً لا تُضاهى، حيث التقينا بالمرشد السياحي الشهير ديف ستيوارت، الذي رافقنا في جولة

Shoreditch Street Art Tour الفنية الشهيرة، والتي من خلالها نستطيع استكشاف وجه جديد للمدينة يمزج بين الفن والثقافات ومعاناة الناس. لوحات لمئات فنّاني ورسّامي الشارع، حيث شاهدنا رسوم الجدران وفنون الشارع وفنّ الغرافيتي، والتي يُفضّل ستيوارت أن يُطلق عليها مسمّى "ثقافة الغرافيتي" متوقّفاً عند تاريخها وأبرز أبطالها اللندنيين، حيث إنّ التقنيات تتنوّع ومن خلالها يمكن اكتشاف مدى السرعة في رسم اللوحات، حيث إنّه فن "غير قانوني" والرسم على العديد من الجدران ممنوع، فيعمد الرسّامون في الليل الى الرسم سرّاً أو يلصقون قطعاً جمعوها لتقديم منحوتات عصرية وأخرى سوريالية مختلفة. والمفاجأة أنّ قطعاً ورسومات عدة أُضيفت في الليلة التي سبقت الجولة، حيث يعيش الشارع حركة فنية في الليل، متجدّدة ونابضة بالشباب والحيوية. من أكثر الأسماء التي تتردّد في الجولة، Banksy وهو ليس غريباً على محبّي فنون الشارع، حيث قدّم لليفربول مجموعة لوحات منتقداً الواقع، فيُكمّلها Dr Cream بمعالجته الساخرة للواقع وأقنعة Gregos المنتشرة في الحارات الصغيرة، لتحفل Brick Lane برسوم ثلاثية الأبعاد لـ Clet Abraham على شارات المرور. حكايا الرسّامين مختلفة، فمنهم من أمضى أكثر من 9 سنوات يرسم سرّاً، وآخر يفضفض ويكشف معاناة حياته وهروبه وحرّية فكره في لوحاته، فيما يُعقّب ستيوارت قائلاً إنّ فنّ الغرافيتي مختلف عمّا يُسمّى

بالـ Street Art وهو مُتاحٌ فهمه لعامة الشعب، على عكس فنّ الغرافيتي الذي يحمل رسائل يفهم محتواها الرسامون وحدهم ويردّون على بعضهم بعضاً بما يُنجزونه منها، فتتنوّع التسميات بين Stencil Art، Paste Up Art، Freehand Painting والتصنيفات Political and environmental art وStunning murals ليبقى محبّو الفنون على موعد مع التجدّد الدائم ومعرضٍ في الهواء الطلق يحكي قصصاً أبت الأيام أن ترويها إلاّ لأكثر الناس فقراً وعوزاً وألماً.

نشاطاتٌ منوّعة

تحفل واجهات المتاجر في Brick Lane بالحلويات المحلّية واليدوية الصُّنع والأزياء والقطع التقليديّة، وتُشكّل مجتمعةً مشهدية رائعة تمثّل التناقض بين الحياة التقليدية والمعاصرة والبساطة في تعامل أهل المنطقة مع السائح والزائر، فأنتَ حتماً تصل إلى هنا غريباً وتُغادر وفي مفكّرتكَ مجموعة أرقامٍ لبائعين وتجّار وأشخاص تلتقي بهم وتتحدّث معهم عن ثقافتهم وعاداتهم وتفاصيل من يومياتهم في ليفربول. محطّة الغداء في واحد من أقدم المطاعم وأكثرها شهرةً في تحضير البيتزا والأطباق الإيطالية وأخرى بريطانية تقليديّة East Pizza، والذي بديكوراته المرتكزة على الـ Pipes والزجاج المقطّع والمزخرف والطاولات الخشب "الفينتيج"، بات مقصداً لمحبّي الهندسة الصناعية في المطاعم. وكان لا بدّ من محطة تسوّق تقليديّة، حيث يجتمع السيّاح والتجار ومحبّو القطع القديمة في سوق Brick Lane’s Vintage Market تحت الأرض، والذي تتطلّب زيارته تفرّغاً ودقةً في الانتقاء والاختيار، سواء سترات الجلد الـ Biker أو تلك المزينة بالشراريب، فضلاً عن مجموعة واسعة من النظّارات الشمسية والقبّعات والصناعات اليدوية والتحف والأثاث الخشبي، وهنا يختلط التاريخ مع الحضارات المختلفة لإرضاء أذواق المتسوّقين. وبعد نهارٍ طويل، لا بدّ من تناول العشاء في

Andina Shoreditch أحد المطاعم التقليدية الصغيرة المكتظّة بالزوّار ومتذوّقي موسيقى البوب.

نزهةٌ في المدينة

اليوم الثاني والأخير في ليفربول كانت له نكهة مختلفة، حيث أردتُ أن أكتشف الجانب الشعبي من المدينة بعيداً من الأماكن السياحية التقليدية التي اشتهرت بها، وبعيداً من الساحات الخضراء، فقرّرتُ السير نحو سوق Spitalfield Market القديم ذي الهندسة الفيكتورية، فهو يجمع أنواعاً مختلفة من المنتجات المحلية وتلك التي يصنعها الوافدون، من جلود وأكسسوارات وطعام شارع مروراً بالأزياء التي صمّمها محلّيون وتركوا بصمتهم الخاصة عليها في النقوش والرسوم، وكان لا بدّ من زيارة سوق الأزهار

Columbia Street Flower Market وهو أقرب إلى احتفال الألوان ترحيباً بالربيع، حيث يجتمع بائعو النبات والأزهار، ويعرضون محاصيلهم ومنتوجاتهم بأسعار زهيدة تناسب كلّ الميزانيات. فلا تستطيع الخروج من السوق إلّا ومعك نبتة أو بذور أو وردة أعجبتكَ. ولا تنسَ طبعاً شاي الكرك المقدّم هناك في أحد الحوانيت الصغيرة على جانب الطريق. وتكاد النزهة سيراً على الأقدام، بين موقع ANDAZ والشارع الكولومبي تتطلّب منك فقط 15 دقيقة، لتجد نفسكَ في المقلب الآخر للمدينة، حيث الأحياء الشعبية والعمارات القديمة، وأنفاق الميترو المكتظّة بالسكان والموسيقيين والرابرز، فتُجسّد هذه العوامل مجتمعةً لوحة ثقافية- اجتماعية فيها التناغم والتناقض بين عواملها.

فن معماري

وفي العودة إلى Andaz Liverpool Street لحزم الأمتعة والمغادرة، يستوقفكَ البناء الهندسي للفندق. فهو يقع في منطقة مالية بالقرب من كاتدرائية ليفربول والعديد من المواقع التاريخيّة، جامعاً في تصميمه الخارجي بين الفن المعماري التقليدي والأحجار القرمزية وبعض اللمسات العصرية، ما جعل منه أكثر الفنادق ارتياداً من محبّي الـ Boutique Hotels. شُيّد الفندق عام 1884 ثم جُدّد سنة 2007، ويوفّر في طبقاته الست غرفة مزودة بكلّ مستلزمات الراحة. كان اسمه Great Eastern Hotel وذُكر في قصّة Dracula للكاتب Bram Stoker، وتعثر داخل كلّ غرفة على مجموعة رسوم جدرانية لفنانين مختلفين تجسّد حقبة من تاريخ المدينة بأبطالها وقصصها التي لا تنتهي عبر التاريخ، فضلاً عن بعض القطع الفنية الثلاثية الأبعاد وأخرى تتدلّى من السقف. إنه بكلّ بساطةٍ رحلة إلى عالم الفنّ والتاريخ بأبعاد جديدة ومطوّرة، حيث لن تعثر هنا على لوحاتٍ ترشدكَ إلى المطاعم والردهات، إنّما أسلوب الـ Light Beam Directions. رفيق مبيتكَ في الفندق، هو Joseph Markovitch أحد اللندنيين القدامى الذي وُلِدَ في الحيّ القديم عام 1927 وتحوّل إلى شخصية استوحى منها الرسامون والمصوّرون الفوتوغرافيون أعمالهم، ورسوم أخرى لـ Sophie Mo التي خلّدت ذكرى تجّار الحرير، ويُروى أنّ أول مقهى فتح أبوابه على رصيف Andaz.

قد يكون المبيت في ليفربول قصيراً، ولكنّه غنيّ ثقافيّاً وتاريخيّاً، فهنا تستطيع معاينة الحروب والدمار والازدهار برسوم بسيطة، بأبنيةٍ خطّ عليها الزمن حكاياته، فأصبحت اليوم مقصداً للزوّار ومحبّي الفنون المختلفة، ولا تنسَ قبل مغادرة ليفربول، أن تجرّب طبق الـ Fish & Chips الشهير... فهنا حتماً مذاقه مختلف.