لمياء شارلوبوا: لا أؤمن بالحظ، وعلى المرء أن يُصقل نفسه ويتمتع بالقدرة على التحمّل والإيجابية

تحقيق: طوني بشارة 27 أبريل 2019

يستحق فيلسوف مثل ابن رشد أن تخلّده المؤسسات الحقوقية وتلك التي تُعنى بتقديم البحوث والدراسات عن المرأة. ومن حق ابن رشد على المرأة أن تعترف بفضله وجهوده في مواجهة من يقلّل من دورها ومكانتها، فهو أكد أن تراجع المجتمعات سببه حصر دور المرأة في الإنجاب وتربية الأولاد، مشدداً على أن لا فارق بين الرجل والمرأة في الغاية الإنسانية، لا بل إن المرأة أكثر حذقاً من الرجل في المهمات التي لا تتطلب جهداً جسدياً كالكتابة والفصاحة والخطابة. وخير دليل على أقوال ابن رشد ما حققته اللبنانية لمياء شارلوبوا، التي هاجرت إلى كندا عندما كانت في الثامنة عشرة من عمرها هرباً من الحرب الأهلية لتتابع دراستها الجامعية، وعلى مدى 24 سنة عملت وثابرت وحققت نجاحاً كبيراً في مجال الاتصالات… لمياء شارلوبوا هي خبيرة في مجال العلاقات العامة، والخطابة العامة، والكتابة والإعلام، وحائزة شهادة بكالوريوس في الاتصالات من جامعة "لافال" في كيبيك، وحاصلة على إجازة في العلاقات العامة من كلية إدارة الأعمال والاقتصاد "HEC" في مونتريال، وبعد أن عملت مع عدد من الشركات والوكالات، أسّست شركة للعلاقات العامة في العام 2003 تقدّم خدمات عدة، أهمها: الاستشارات الاستراتيجية، وإدارة الأزمات، والعلاقات العامة، والخطابة، والتدريب الاعلامي باللغتين الفرنسية والإنكليزية. عاشت لمياء متنقلةً بين بيروت وكيبيك وأوتاوا وتورونتو ومونتريال، وهي تجيد أربع لغات، ومُنحت أخيراً وسام الأرز من جانب غرفة كندا – لبنان للتجارة والصناعة. "لها" التقت لمياء شارلوبوا وأجرت معها حواراً تحدّثت فيه عن تجربتها الشخصية والنجاح الذي حققته في مجال الاتصالات في كندا.


- حدّثينا أولاً عن دراستك والهجرة إلى كندا؟

أفتخر بكوني لبنانية… وقد تلقيت تعليمي في مدرسة "الليسيه"، وحين أصبحت في المرحلة الثانوية انتقلت الى مدرسة "لويز فغمان". لم أكن بارعة في مادة الرياضيات، لذا اخترت دراسة الأدب والفلسفة وعملت في مجال الصحافة والعلاقات العامة، ثم التحقت بالجامعة الأميركية في بيروت للتخصّص في الطب، لكنني تخليّت عنه لمجرد تفكيري بأن الزواج وتكوين أسرة لن يسمحا لي باستكمال دراسة الطب، فقررت الانتقال الى إدارة الأعمال. ولكنني لم أرغب بهذا الاختصاص أيضاً. وذات صباح في العام 1983 وصلت إلى الجامعة لأجد أحد الصفوف وقد تعرض للتفجير، وحدث ذلك قبل ربع ساعة من وصولي إلى الجامعة فشعرت بخوف شديد، كما رأيت مشهداً مرعباً إذ قُتل عميد الكلية أمام عيني، فقررت ترك الجامعة وتقدّمت بطلب للسفر الى كندا، وتم قبوله فغادرت لبنان وأنا في سنّ الثامنة عشرة، وفي كندا تابعت دراستي الجامعية، وعلى مدى ثلاث سنوات تعلّمت وعملت ودرست اللغة الإيطالية، ولم أكن أنوي البقاء في كندا أو الحصول على الجنسية الكندية، وبعد ذلك نلت شهادة في مجال الاتصالات.

- كيف بدأت العمل في مجال الاتصالات؟

عندما يتخرّج الشاب أو الفتاة، يظن أنه قادر على تغيير العالم. فبعد تخرّجي في الجامعة، قصدت إحدى الشركات لأبدأ العمل في مجال تخصّصي، ولكنني فوجئت بالوظيفة إذ طُلب مني أن أعمل على الآلة الناسخة، وقد استمررت بهذا العمل لأكثر من ثلاثة أشهر، فقد ظننت أنني سأعمل في قسم التسويق. ولكن خلال تلك الفترة، كنت كلما توجّهت الى أي شركة بهدف تصليح الآلة الناسخة، أزوّدهم بسيرتي الذاتية، وهكذا وجدت عملاً تسويقياً مهمّاً في شركة شحن ضخمة، لأن كندا بلد كبير وعملية الشحن فيه تتم من شاطئ الى شاطئ (من المحيط الأطلسي الى المحيط الهادئ). ورغم أنه كان عملاً جيداً لكنني لم أرغب به، لذا انتقلت للعمل في شركة السكك الحديد للركاب، وكان عملاً رائعاً، وفي تلك الأثناء كنت أعمل من التاسعة صباحاً حتى الخامسة عصراً، وفي المساء أتوجّه الى الجامعة لأكمل دراسة الماجستير. وما ساعدني في ذلك أنني كنت يومذاك عزباء، فتمكنت من مزاولة عملي ومتابعة دراستي في آن واحد، وأؤكد أن عملي في مجال الاتصالات والعلاقات العامة أكسبني خبرة واسعة.

- عملتِ في شركات مهمة، لكن ما الذي دفعك لتأسيس شركة خاصة بك؟

قبل أن أؤسّس شركتي الخاصة، عملت في مؤسسات ضخمة، ولم أفكر يوماً بأن يكون لي عمل خاص. لكن بعد انفصالي عن زوجي، أردت أن أكون أمّاً وأباً في الوقت نفسه، وحاضرة دائماً للاهتمام بابنتي، فكان أفضل خيار أمامي أن أؤسّس عملاً خاصاً بي، ولم أكن أعرف أنه سينمو بهذا الشكل على مدى 16 عاماً، فكان أفضل خطوة قمت بها في حياتي. لقد اخترت العيش بسعادة، علماً أنه لم يكن من السهل عليّ تحمّل المصاريف في ظل عدم تقاضيّ راتباً شهرياً ثابتاً: لكن بالعمل الجاد والصادق تمكنت من النجاح واكتساب ثقة الناس. فيومي يبدأ في السابعة صباحاً إذ أحتسي القهوة وأقرأ الجريدة وأنا بالقرب من ابنتي، بعدها أنطلق في العمل من المنزل الى أن يحلّ المساء، فأتناول طعام العشاء مع ابنتي وأعتني بها، وما إن تنكبّ على واجباتها المدرسية حتى أستأنف العمل الى منتصف الليل. اليوم وبعد مضي 16 عاماً، يمكن أن ألتفت الى الوراء وأقول "يا لها من رحلة شيّقة"، فالزبائن يثقون بي ويستمرّون في العمل معي، وأنا أتنقل في العمل بين إدارة الأزمات والاستشارات الاستراتيجية والتدريب على الخطابة أمام الجمهور، مروراً بالعلاقات العامة ووسائل الإعلام، وصولاً الى مواقع التواصل الاجتماعي وكتابة المحتوى في يوم واحد. المسؤوليات كبيرة ومتنوعة، وأقوم بها بسرعة جنونية، ومع ذلك فالأمور تسير على خير ما يُرام. النجاح لا علاقة له بالحظ، بل هو نتيجة عمل شاق وثابت الى أجل غير مسمى.

- ما الذي جعل لمياء امرأة قوية؟ وهل كنت قادرة على التوفيق بين العمل والأمومة؟

بالمثابرة، تستطيع المرأة أن توفّق بين الأمومة والعمل والحياة الاجتماعية. وأكثر ما جعلني امرأة قوية بعد الطلاق هو الاعتماد على نفسي في كل شيء، ففي السابق كنت أتّكل على زوجي الذي كان يكبرني بـ15 سنة، وحين تزوجت كنت لا أزال صغيرة في السنّ ولا أعرف كيف أتدبّر أموري. لكن بعد الطلاق اضطررت لتعلّم كل شيء في الحياة، وهذا زادني قوةً وعزماً، وأدركت أن في إمكان أي امرأة القيام بذلك وبأفضل الطرق.

- عشت 34 سنة في بلاد الاغتراب، وأسّست شركة ناجحة هناك، فمن هو داعمك الأساس؟

عائلتي كانت بعيدة عني، فوالدي هو فؤاد غنطوس من شمال لبنان، ووالدتي هي نهاد صيقلي من بيروت، عاشا في لبنان ولم يهاجرا الى كندا، لكنهما دعماني معنوياً، وكذلك شقيقي نديم غنطوس وخالي نديم صيقلي. لقد مررت بمرحلة صعبة بعد الانفصال عن زوجي، مرحلة واجهت فيها مصاعب كثيرة وأنا أعيش وحيدة في بلاد الاغتراب، وبالتأكيد شعرت بالشوق والحنين الى عائلتي وأقاربي، ولكن انشغالي بعملي وسعيي الدائم لتحقيق النجاح ساعداني في اجتياز هذه المرحلة الصعبة.

- العطاء من أهم صفات المرأة، فما هو مفهومك له؟

أؤمن بضرورة أن نتفانى في خدمة مجتمعنا، وهذه ليست نظرية، بل عمل أقوم به فعلاً. ومثال على ذلك، عندما توفيت والدتي في العام 2000 بعد معاناة طويلة مع مرض السرطان، كانت قد أنشأت مؤسسةNohad Fouad Ghantous Breast Cancer Foundation لمساعدة النساء المصابات بالسرطان وغير القادرات على تحمّل تكاليف العلاج، ولهذا أخذت على عاتقي أن أساعد النساء بغض الطرف عن أي اختلاف في العرق أو الدين أو الجنسية، فوصية أمي كانت أن نكمل أنا وأفراد عائلتي هذا المشروع.

- نستغرب دائماً لحال اللبنانيين بشكل خاص والعرب بشكل عام في بلاد الاغتراب كيف أنهم يتعاملون بمحبّة مع بعضهم ولا يسمحون لعامل الدين أو العرق بأن يفرّق بينهم، فما رأيك بذلك؟

هذا صحيح، فاللبنانيون عندما يلتقون في بلاد الاغتراب، يتعاملون مع بعضهم بعضاً بالحُسنى. ولذلك أسعى دائماً أن تظل المجموعة التي أطلقتها على صفحتي على "فايسبوك" متّحدة بعيداً من أي اصطفاف طائفي او سياسي. العمل في هذا المجال أفادني كثيراً، فمن خلاله تعرفت إلى أناس كثيرين، واكتشفت أن العطاء هو مفتاح السعادة، ورغم أنني هربت من الحرب الأهلية التي اندلعت في لبنان، قاومت الشعور بالحقد والتعصّب، وحرصت على الحفاظ على القيم والمبادئ التي علّمني إياها والداي.

- ما هي طموحات لمياء المستقبلية؟

طموحاتي كبيرة. فبالنسبة الى مجال تخصّصي، أرى أنه لا يزال أمامي الكثير لأتعلّمه وأقوم به، ففي كندا المرأة تعمل كثيراً ولا تتوقف عند سنّ معينة، بل تستمر في العطاء، وهدفي أن أطوّر عملي وأقوم بنشاطات في بيروت. لقد نظّمت العديد من ورش العمل في الخطابة العامة في كندا، وكذلك عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأودّ أن أنظّم ورش عمل في لبنان أيضاً، كي أتشارك الخبرة التي اكتسبتها على مدى 24 سنة مع اللبنانيين، فرغم أنني أُقيم في كندا وأزور لبنان باستمرار، أسعى لتنظيم مثل هذه النشاطات في لبنان، فهذا هو حلمي وسيتحقق بإذن الله.

الكتابة باللغتين الفرنسية والإنكليزية أمر مهم جداً بالنسبة إليّ، فمن خلالها أتعامل مع الشركات الناشئة وتلك الصغيرة والكبيرة أو الأفراد ووسائل الإعلام، بحيث أُزوّد وسائل الإعلام بالأخبار، وبالتالي أوضح كيفية تقديمها بشكل صحيح، كما أحرص على التعامل مع زبائن أو عملاء يتمتعون بسمعة طيبة، وأرفض التعامل مع شركة تستخدم أطفالاً مهما كان الربح المادي كبيراً، أما في مجال الخطابة العامة فأطلقت معظم ورشها في كندا.

- نجد أشخاصاً يتمتعون بالكفاءة العلمية لكنهم يعجزون عن إلقاء خطاب أمام الحشود، فكيف تساعدينهم للتمكّن من ذلك؟

بمقدور أي شخص أن يتعلّم فن الخطابة بإشراف مدرّب أو متخصّص في هذا المجال. وبالنسبة إليّ، أساعد زبائني، والذين هم أيضاً رؤساء لأهم الشركات والمؤسسات، غير أنهم حين الوقوف أمام حشد جماهيري، يسيطر عليهم الخوف والقلق، ولذلك أساعدهم للتحدّث بكل ثقة، وإلقاء الخطاب بنبرة صحيحة. ورغم أن معظم زبائني من أصحاب الشركات ذكورٌ، لم أواجه أي مشكلة معهم، وهم أيضاً يثقون بقدراتي، لا سيما أنني ضليعة بفن المسرح وفن الخطابة، اذ كنت أقدّم برنامجاً إذاعياً مباشرةً على الهواء، وأناقش فيه الكثير من الأمور، ومع ذلك كنت أشعر بالخوف كلما فكّرت أن نصف مليون شخص يستمعون الى برنامجي، فالأهم أن يتمكن الشخص من التغلب على الخوف ليقدّم أفضل ما لديه.

- ما الذي تحتاج إليه المرأة العربية للوصول الى مراكز القرار؟

في كل مرة أزور لبنان، ألتقي بسيدات لبنانيات وعربيات في ورش العمل، وأُبدي إعجابي بهن لأنهن يتمتعن بالكفاءة والمؤهلات العلمية، ولكن للأسف لا يصلن الى مراكز القرار، رغم أننا بحاجة الى نساء متمرّسات في السياسة، وأعتقد أن الإعلام أيضاً بحاجة الى المرأة، وذلك لقدرتها على التأثير من خلال صوتها. ومهما واجهت المرأة اللبنانية والعربية من مشاكل في حياتها الزوجية، يجب ألا تقع فريسةً للحزن، أو تستسلم لليأس لمجرد أنها ترفض الانفصال عن زوجها الذي يؤمّن لها كل شيء، أو أنها زوجة رجل مشهور، فالمرأة تستحق أن تكون سعيدة في حياتها، وأنصحها بأن تزاول العمل الذي تحب لئلا تبقى أسيرة وراضخة في حال كانت تعاني الأمرّين مع زوجها.

وهنا سأشير الى أمر مهم، وهو أن النساء في لبنان يحظين بدعم الأهل والأقارب وحتى الجيران، فهناك من يساعد المرأة اللبنانية في الأعمال المنزلية وتربية الأولاد وحتى تحضير الطعام لأسرتها، وبالتالي هي ليست مضطرة للقيام بأعمال كثيرة، على عكس المرأة التي تُقيم في كندا لوحدها... ومع احترامي للرجال، فهم لا يدركون أهمية أن تعمل المرأة، فأحياناً يشعر الزوج بالسعادة اذا لزمت زوجته المنزل لكي تتفرّغ له ولأسرته، ويغيب عن باله أنها بذلك تلغي نفسها وستشعر بالفراغ بعد أن يتزوج أولادها ويبتعدوا عنها، لكن إذا استمرت في العمل فستشعر أنها عنصر منتج وفعّال في المجتمع، وهذا أمر ضروري جداً لها.

هل من نصائح تسدينها للمرأة كي تستفيد من خبرتك في هذا المجال؟

أولاً: يجب أن تكون المرأة مستعدة دائماً للبدء بعمل أو مشروع ما، فذات مرة وقّعت على عقد عمل بعد مزحة مع سيدة في السوبرماركت في كندا، وتبين لي أنها كانت الرئيسة التنفيذية في شركة ضخمة، فأعطيتها بطاقتي، وكانت فرصة جيدة.

ثانياً: على المرأة أن تحيط نفسها بأشخاص مهنيين لطفاء، فالمهارات لا تكفي وحدها، بل يحتاج الشخص الى القيم أيضاً، كما أن تعامل المرأة مع شركاء وزملاء وزبائن لطفاء يُشعرها بالسعادة ويحفّزها على المزيد من العطاء.

ثالثاً: الانضباط هو أساس أي عمل، وخصوصاً في البداية بحيث لا يكون للمرأة عملاء أو زبائن بعد، كما أن التقيـد بالوقـت ضروري ويساهم في إنجاح العمل.

رابعاً: لا بد للمرأة من الاختلاط مع الرؤساء التنفيذيين ورجال الأعمال وأصحاب المشاريع الناجحة وطرح الأسئلة عليهم كي تستفيد من خبراتهم.

خامساً: على المرأة أن تؤمن بقدراتها، وتكون واثقة في نفسها، فبذلك تنجح في تحويل أعدائها الى أصدقاء، وتستمد القوة من طاقتهم السلبية فتقدّم أفضل أداء.

سادساً: لا بد للمرأة من الصبر حتى تتمكن من تحقيق أهدافها في الحياة.

في النهايـــة، أنــــا لا أؤمــــن بالحــــظ، وأعتقــــد أنه على الشخص أن يعمل علـــى صقـــــل نفسه ويتمتع بالمرونـــــة وحسّ الإبــــداع والقـــــدرة على التحمل والعاطفـــــة والايجابيــــة والنزاهــــة والتواضع، وحتى الخوف لكي يحقق النجاحات والإنجازات.