كسوة الكعبة بين التاريخ والفلكلور

03 أغسطس 2019

عتبر كسوة الكعبة المصرية قطعة نسيج مباركة نالت شرفاً وقدسية بتزيينها للكعبة وملامستها لحجرها المقدس، ونسجت لنا تلك القطعة المقدسة الكثير من أحداث التاريخ المصري عبر حقب زمنية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ. وترجع مساهمة مصر في كسوة الكعبة إلى ما قبل الإسلام؛ وذلك بسبب شهرة منسوجات القباطي المصرية، والتي كانت تعتبر ماركة عالمية بمقاييس هذا العصر، فقد كانت الكعبة مقدسة في نظر العرب قبل الإسلام، وتجلت تلك القداسة في حرصهم على كسوتها وتزيينها كل عام في موسم الحج بأفخر أنواع النسيج التي اشتهرت في هذا الوقت، فتذكر المصادر أنهم استخدموا قماش القباطي المصري في كسوة الكعبة في بعض الفترات.

ولما جاء الإسلام حث المسلمين على تعظيم شعائر الله، وامتثل المسلمون لهذا الأمر الإلهي، وحرصوا على إظهار ذلك، فنالت الكعبة حظاً موفوراً من التشريف والتعظيم، فقد قام الرسول (صلى الله عليه وسلم) بكسوة الكعبة، وهناك إشارات لاستخدام قماش القباطي المصري في كسوة الكعبة إلى جانب الأقمشة اليمنية في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) وذلك طبقاً للروايتين اللتين أوردهما ابن حجر العسقلاني في كتابه فتح الباري بهذا الصدد.

واستمر الحال على ذلك في عهد الخلفاء الراشدين؛ فقد كساها أبو بكر الصديق القباطي المصرية، وفي خلافة عمر بن الخطاب حدد مبلغ ثابت لكسوة الكعبة من بيت مال المسلمين، وأمر أن تصنع في مصانع النسيج المصرية، وكلف واليه على مصر عمرو بن العاص بالإشراف على صنعها، وفي عهد عثمان بن عفان قرر للكعبة كسوتين؛ الأولى بالحرير يوم التروية، والأخرى بالقباطي يوم السابع والعشرين من رمضان. وسار الأمويون على نهجه فكسوها مرتين في العام؛ الأولى بالحرير يوم عاشوراء، والثانية بالقباطي المصري آخر شهر رمضان.

ولما جاء العباسيون استخدموا الدين في الدعاية السياسة بصورة فاعلة؛ للتأثير في مشاعر الناس من خلال ربط أعمال الخلفاء بتقديس وتعظيم شعائر الله؛ لإضفاء الشرعية على حكمهم واكتساب شعبية جماهيرية؛ لذا فقد اهتموا اهتماماً بالغاً بكسوة الكعبة، فصنعوها بمدينة تنيس المصرية التي اشتهرت بصناعة أفخم أنواع الحرير وتطريزه، فيذكر الفاكهي أنه رأى كسوتين من القباطي صنعتا بأمر الخليفة المهدي في مدينة تنيس في عامي 159 و162هـ، وكسوة مصنوعة بأمر الخليفة هارون الرشيد عام 190 ه، وأخرى مصنوعة بأمر الخليفة المأمون عام 206 ه.

وعندما استولى الفاطميون على مصر، وبسطوا سلطانهم على بلاد الشام والحجاز واليمن، وأقاموا خلافة شيعية منافسة للخلافة العباسية السنية، قاموا بإرسال كسوة الكعبة من مصر لإضفاء الشرعية على حكمهم، في وقت كانت الحرب الدعائية على أشدها بينهم وبين العباسيين. ففي عام 362 ه، أرسل الخليفة الفاطمي المعز لدين الله كسوة رائعة مصنوعة من الحرير الأحمر ومطرزة بالجواهر الثمينة، كانت مثار إعجاب الناظرين، حتى إن الناس قالوا إنهم لم يروا مثلها قط. وكان الهدف من المبالغة في فخامتها تقديم صورة إيجابية عنهم، وإبراز قوتهم وثرائهم الفاحش، والتشجيع على الإنضمام إلى صفوفهم.

وشارك الأيوبيون أيضاً في إرسال كسوة للكعبة رغم حروبهم مع الصليبيين، وأشهرها الكسوة التي خرجت بها شجرة الدر أثناء ذهابها للحج والتي كانت أول كسوة تحمل على محمل، وأصبح هذا الأمر تقليداً متبعاً. مع سقوط الخلافة العباسية في بغداد سطع نجم المماليك وحاولوا بسط نفوذهم السياسي والروحي على العالم الإسلامي، فقاموا بإحياء الخلافة العباسية في القاهرة، وبسطوا سلطانهم على الحجاز وأرسلوا كسوة الكعبة من مصر وأصروا على الاستئثار بهذا الشرف حتى ولو وصل الأمر إلى الحرب، ففي عام 751ه حاول حاكم اليمن أن ينزع كسوة الكعبة المصرية، فحاربه المماليك وقبضوا عليه وأرسل إلى القاهرة، ونتيجة لذلك أوقف السلطان الصالح إسماعيل بن السلطان الناصر بن قلاوون عام 751ه قريتين من قرى القليوبية؛ لضمان تمكن مصر من كسوة الكعبة كل سنة. لكن هذا لم يحل دون المنافسة على كسوة الكعبة من قبل حكام العالم الإسلامي، ففي عام 833ه أراد الحاكم المغولي شاه رخ ميرزا كسوة الكعبة، وراسل السلطان المملوكي الأشرف برسباي وألح عليه في ذلك، فما كان من السلطان المملوكي إلا أن استصدر فتوى قضائية لقطع خط الرجعة على أي حاكم يفكر في هذا الأمر، مفادها كما أورد المقريزي أن "العادة جرت ألا يكسو الكعبة إلا ملوك مصر وذلك يرقى إلى مستوى التشريع". وعندما استولى العثمانيون على مصر، حرص سلطانهم على إكساب دولته شرعية دينية وزعامة روحية، ومن ثم اهتم خلال فترة وجوده في مصر بإعداد كسوة للكعبة بلغت غاية الإتقان وكتب اسمه عليها.

وظلت كسوة الكعبة ترسل سنوياً من مصر من دخل الوقف الذي أوقفه السلطان المملوكي الصالح إسماعيل، إلى أن جاء عهد السلطان سليمان القانوني الذي رأى أن دخل هذا الوقف لم يعد يفي بخدمة الحرمين الشريفين، فأمر بشراء سبع قرى إضافة إلى الثلاث السابقة عام 947 ه، لتصبح عشر قرى ينفق من دخلها على الكسوة والمحمل. استمرت مصر في إرسال الكسوة والمحمل إلى مكة حتى عام 1221ه، وتوقفت فترة قصيرة ومن ثم أعادت الكسوة بعد ست سنوات، وظلت ترسل كسوة الكعبة حتى عام 1962.

أما بالنسبة للمكان الذي كانت تصنع به كسوة الكعبة فظلت تصنع في مدينة تنيس التابعة لدمياط فترة طويلة إلى أن قام الصليبيون بتدمير المدينة ونهبها، فانتقل مركز صناعتها إلى القاهرة حيث خصص لها مكان في القلعة– مقر الحكم- ويبدو أنها ظلت تصنع داخل القلعة مقر الحكم إلى أن أمر محمد على باشا بإنشاء دار خاصة للكسوة بمنطقة الخرنفش، وهي قائمة لليوم في قلب القاهرة.

وكانت الكسوة تخرج من مصر إلى مكة في احتفال مهيب يحضره جميع طوائف المصريين من رجال ونساء وأطفال الذين يخرجون لتوديع ذويهم، وكذلك لنيل البركة، إذ كان ينصب المحمل الحامل للكسوة وسط ساحة ميدان العباسية ليزوره من يريد التبرك به، فكان الناس يقومون بختان الأولاد في مظاهر علانية، وكانت النساء العقيمات يقمن بالمرور من أسفل بطن الحمل الحامل للكسوة أملاً أن تحل عليهن البركة ويحدث الحمل، وكان العامة يتدافعون للمس المحمل طمعاً في البركة، ومنهم من كان يمرر عليه منديلاً ليحتفظ به.

كما كان الحكام يحرصون على الاحتفاظ بالكسوة التي تمت إعادتها؛ لأنها نالت بركة الكعبة المشرفة؛ لذا كانت تقطع إلى قطع وتوزع على الأمراء، وما زالت هذه القطع موجودة في متحف كسوة الكعبة، وبعضها في قبور العائلة الملكية في مصر؛ إذ زيَّنوا بها أضرحتهم كنوع من التبرك.

نقلاً عن الشقيقة "الحياة"