الشاعر قزحيا ساسين: «أميل الى الشاعرة التي تكتب بالقلم الأحمر»

بيروت-إسماعيل فقيه 25 أغسطس 2019
الشاعر اللبناني قزحيا ساسين ليس قلقاً على الحياة بقدر ما هو قلق على القصيدة والشعر. ويترجم هذه الحيرة الشعرية بقصائده الزاخرة بالمحاولات والتجارب. واللغة بالنسبة إليه هي فعل بدلالات كثيرة، وتبقى المحكية المحلية هي لغته الشعرية الأساسية. وربما كانت قصيدته بالمحكية اللبنانية خير دليل على قدرة الشاعر على البوح الكامل، من دون التخفي في مصطلحات الفصحى. نحاول الدخول الى عالم الشاعر من خلال الخوض معه في سؤال الشعر والقصيدة، فماذا يخبرنا وماذا يكشف لنا قزحيا عما يعتمل في تجربته مع اللغة وآفاقها الشعرية المفتوحة؟


- لماذا أنت شاعر؟

لا أعرف كيف أجيب عن هذا السؤال بنسبة لا بأس بها من الوضوح، وبنسبة متواضعة من النرجسيّة. إن لم أكن مخدوعاً بالشاعر الذي فيّ، فأنا لا أثق بظلّ تمنحني إيّاه الشمس مجّاناً، وأنشد ظلّاً آخر، تمنحني إيّاه اللغة مكافأة لتربيتي جرحاً تلو آخَر، وإقامتي الدائمة في خيمة لها من الشكّ وتدٌ ومن الألم ثانٍ. وآمل بأن أكون شاعراً رغماً عنّي، لكن ليس رغماً عن الشعر. وأرجو ألّا تكون قافيتي خجلى بي حين تعلنني شاعراً في حضرة الجمال الجليل.

- لماذا تكتب بالمحكية؟

قد لا يعلم البعض أنّني متخصّص في اللغة العربيّة وآدابها، وأنّ صداقة قديمة تربطني بالمتنبّي، وأبي نواس، والأخطلَين: كبيراً وصغيراً، وأمين نخله، ومحمود درويش، ونزار قبّاني... الذين يرتاحون ملوكاً على شرفة روحي، وأحرص على أن أذهب بمعيّتهم إلى مدرستي، وأضيّف طلّابي من شهيّ فاكهتهم التي ليس للنسيان حمْلها في سلاله.

ولي بالفصحى «ماء الكلام»، كتاب ينتمي إلى النثر الفنّي، الذي يقف اليوم يتيماً عند بوّابة الدنيا، بعدما أصبحنا في زمن يرى فيه كثيرون من أهل الحداثة مفكّرة أمين نخلة الريفيّة شعراً حديثاً... ولي بالفصحى من الشعر الكلاسيكيّ ما كتبته، وأكتبه، بفرح عظيم، غير أنّني لم أذهب بعد بقصائدي الفصيحة إلى المطبعة.

أمّا المحكيّة، فهي لغة «يلّا ينام، يلّا ينام»، وقد ذوَّبها صوت أمّي في حمرة دمي. وبيني وبينها، كتابةً، زواج أبدي. ولا أخفي أنّني أراها تراباً مثقَلاً بالبكارة، منتظِراً زَرّاعين، على أكفّهم بذور تعِد بسلالة ورود جديدة على حدائق الجمال.

في المحكيّة، أستطيع أن أكون أنا الأقرب إلى ذاتي، والأكثر وفاءً لوجعي، والأكثر تعبيراً عن فرح المطر وهو يخون أصابع غيومي...

- ماذا تعني لك اللغة، والفصيحة تحديداً؟

اللغة ورطة لا بدّ منها. أراهن عليها لتقول ما أريد، فأراها تقول معي ما هي تريد أيضاً. إنّها تتدخّل في خصوصيّاتي، وكثيراً ما أنحرف عن معانيَّ لأرضيها. واللّغة تعذّبني حين أحاول اختصار لسانها، لتحضن كثير نبيذها بقليل من الفخّار. مزاج اللغات لا يقلّ صعوبة وغرابة عن مزاج المرأة، وأنا رجُل أربعينيّ ولا أزال جَنينيّ المعرفة في المرأة.

وفي الوقوف أمام مرآة العربيّة، قد يطول الكلام، إلّا أنّني أستطيع الاعتراف بأنّ لغة العرب لا تزال تثير شهيّتي إلى الإبحار في فَيء أشرعتها، حين أراها هاربة من ظلمة القواميس، متحرّرة من سلطة شيخ القبيلة، آخذة من الحياة شرعيّتها وجواز مرورها... ولنعترفْ، بلا مكابرة وفخر جاهليّ، أنّ للأدب وحْده القدرة على مدّ هذه اللغة بمزيد من العمر... لغتنا تحتاج اليوم نزار قبّاني جديداً، ومحمود درويش جديداً... كما أنّها تحتاج غرف عناية فائقة في المدارس والجامعات...

- كيف بدأت مع الشعر؟

كتبت الشعر قبل أن أعرفه، ودرت حوله طويلاً قبل أن أصل إليه. لقد قادني التقصير في واجب مدرسيّ إلى أوّل لقاء لي مع القصيدة. طلبت منّا المعلّمة، في الصفّ الابتدائيّ الرابع، حفظ قصيدة زجليّة للشاعر خليل روكز غيباً، لننشدها جماعة في احتفال مُعَدّ لعيد الأمّ. ولقلّة نشاطي، آثرت كتابة قصيدة معتمداً موضوع القصيدة الروكزيّة والقافية نفسَيهما. وتمكّنت في اليوم التالي، من الفوز بموافقة معلمتي على إلقائي قصيدتي منفرداً. وكان ما كان من تصفيق وتشجيع، وصدّقت أنّني شاعر، ولا أزال مصدّقاً حتّى الآن.

- ما هي الدوافع في داخلك ونوازعك التي تشدّك الى الكتابة؟

لمّا ولدتني أمّي، أتت بي من الفكرة إلى التراب، وها أنا أكتب لأعود من التراب إلى الفكرة. أكتب، لأنّني أحبّ تأريخ هزائمي الثمينة، الفائقة الجمال، وأسعى إلى بناء قصور ورقيّة تليق بجروحي. أحاول، وبكلّ بساطة، أن أعيد صياغة أصابعي وعَينيّ... وأحاول أن أرى عمودي الفقريّ وأعدّه خرزة خرزة على الورق.

- كأنك شاعر متذمّر ورافض وقلق جدّاً، ما هو سبب هذا النشاط الانتحاري في نصّك الشعري؟

لست متذمّراً، إنّما بي من قلق المتنبّي حين الرّيح تحته. القلَق يقاسمني رغيف الحبر ورغيف الخبز. وأعرف أنّ القبول، والتّوقيع على مستندات الظروف كلّها يقيانني ألم التشرّد من بساط ريح إلى آخر، غير أنّني أكره أسْر الوجوه في مرايا دائمة، وأجد متعة في الاستقالة من كلّ العقائد والمعاني الموروثة، أو المُرَوَّج لها في سوق الدنيا. وعليه، أعود وأقنع حرّيتي بعرائي، وإيماني بشكّي، وقوّتي بضعفي، وكفَني بتمرّدي... ومن حسن حظّي الذي صنعتُه، أنّ نَصّي، الشعريّ أو النثريّ، يقولني بنسبة مقبولة من الأمانة.

- ما هو نصيب المرأة من قصيدتك؟

ليست المرأة كلّ شيء في شعري، لكن لا شيء فيه يستطيع التبرُّؤ منها. من المحال أن تُكتَب للأجنّة اللغويّة حياة بلا المرأة. سبق وقلت إنّ اللغة أنثى، وبالتالي هي شهرزاد بنات جنسها، وتعرف كيف تقود أقلام الشعراء نحوَهنّ. كتبتُ أمّي وجدّتي وحبيبتي وابنتي ومريم العذراء... وقلت في «ماء الكلام»: ليست اللغة سوى نون النسوة، وما بقي دمى لتلاميذ المدارس.

- هل للحبّ دور أساس في بلورة قصيدتك؟

إنّي إنسان يلوذ بالقلب من قساوة العقل وسخافته. ولست مستعدّاً للاحتفاظ بأيّ نصّ لي إن لم يستطع، ولو بعد ألف عام، تذكيري بنبضة من نبضات قلبي. وإنّي، على سبيل المثال، لا أستطيع معانقة قصيدة من روائع سعيد عقل عناقاً كاملاً، لأنّها، على المستوى العاطفيّ ، تشكو فقر الدم.

- ماذا تعني لك المرأة الشاعرة؟

ثمّة شاعرة تكتب بقلم الحمرة، وأخرى بالقلم الأحمر، فأنا أميل إلى الثانية. أعني التي لا تكتفي بكونها امرأة لتعتلي المنابر وتجتاح الصفحات الثقافيّة في الصحف... وهذا النموذج شائع عندنا، وكم يضحكني أصحاب المنتديات الثقافيّة والشعريّة حين يبحثون عن المرأة الشاعرة ليكسروا بحضورها سمّ الشعريّة الذكوريّة. حتّى على منابرنا الثقافيّة تتحوّل المرأة سلعة، وهي راضية تماماً، وتعتبر هذا الاستغلال يمنحها شيئاً من المساواة مع الرجل. أمّا المرأة ذات الموهبة الشعريّة، فهي ضالّتي وضالّة الكثيرين من الشعراء الّذين لا يعتبرون الأنوثة بديلاً من الموهبة... ويجب الاعتراف بأنّ شاعراتنا قليلات جدّاً، ولم تصل واحدة منهنّ بعد إلى أن تكون أنسي الحاج أو نزار قبّاني...

- هل أنت حزين، سعيد، كئيب، فاشل، مظلوم، ظالم، جلّاد، ضحيّة...؟

إنّي سعيد في مملكة أحزاني. كنت وفيّاً للحزن فمنحتُه ذاتي، وبادلَني الوفاء فمنحَني القصيدة. لست مغفَّلاً لأرى السعادة في ما ينقصني من صحّة أو مال أو أهل أو أصدقاء أو أرض... لأنّ القصيدة وحْدها تصنع امتلائي الّذي لم تستطعْه أمّي، أو أنها تعطيني ما لم أستطع إخراجه معي من رحم أمّي، وهو يعادل الألوهة. وحين أغمض عينيّ لأرى حياتي لا يعبرني شعور بالفشل، كما أنّني لا أشعر بفرح من احتلّ القلعة. لقد قمت في حياتي بما عليّ القيام به، وأنصفتني الحياة بقلمي، فغفرتُ لها مراهِناً على أن تلتزم بكلمتي بعد موتي رغم أنّي لم ألتزم بكلمتها يوماً. لم أكن القاتل، ولم أكن الضحيّة، كنت العابر كما يريد أن يعبر، والوردة الّتي علّمَت عطرها كيف يعيش في الدنيا وحيداً بعدها.

مختارات من أشعاره:

الكَتيبِه... تمحايِه

قلامي المبْرِيِّه باللهْفِه

بتْمَحّي تا تطال التحْفِه

صعْب الأبيض...

لا مُش هَيِّن

بتْمحّي الأبيض تا يبَيِّن

تحْتو الأسْوَد نتْفِه ونِتْفِه.

نَوم... عايش عمْرو

هالنَّوم ما ضَيَّف عيوني يَوم

ضحكة العتمِه... ولا حِلِم جَبْلي

وشاكِك أنا بـْ هالنَّوم

نامو حدا قَبْلي.

بحْر أكبر

تا تَعرفو بحَار

لا تسألو شو صار

لمّا وِقِف عالموج وقْفة قنطرَه

وإيدو عا خصر العاصفِه زنّار

تا تعرفو بحّار

نْطُرلَك مرا تبكي قبالو نهار

وتْشوف كَنّو بْيِغرق بـْ دمعة مرا

خيانِه

ما بْظِنّ الِخيانه

قلِّة وفا

هِيِّه الوفا

بَسّ لْ حدا تاني.

إيد بصّارَه

صدرِك بـ إيدي مكنكن ودفيان

من أوَّل زيارَه

لا تنْقَزي... ما بْيُوقَع الفنجان

من إيد بصَّارَه

نيّالُن اللصَّين

حَدّي يا بَيِّي علَّقِت لصَّين

لصَّين... تحْتُن ما شِفِت إمَّين

لصَّين... لبَّستُن هَنا النعمِه

مش رح بقلَّك وَين قلبَك؟... وَين؟

ولا رِدّ خَلّ الموت... مش هَمّي

ولَنّو احسبني لصّ... كِف لَك عَين

عالجلجلِه تعْزم معي إمّي؟!

احمِليني... عَ كتافي

لَقِّي يا إمّي... بْيِحملو كتافي

لا تحملي قبالي عصا... بُوجَع

وبِيصِير صوتي حمْل عَ شفافي

لَقِّي يا إمّي مليح... لا تخافي

نْ بمْشي أنا ومش حاملِك... بُوقَع.

وراق فاضيِه

تعَبّو وراقي... وما فضِي بالي

وجرْح لْ بِـ قلبي ما ضحِك سنّو

فِيِّي حدا... مش شايفو قبالي

وع ورقتي هَمّو وقَع مِنّو

سخْرَه كتَبِت كلّ العمر عَنّو

ما في ولا يوم كتَبْت عن حالي.

جياب بَيِّي

بَيِّي مع الفقر القديم صْحاب

بْيِحْمل عا كتفو جْميلة تيابو

بَيِّي الفقِر... مَلْوَا جيابو تراب

وأحلا زهر طالِع من جيابو.

كَفّ قديم

زرقا السّما... لَونا الحِلو نَقَّا

ألله عا مهل... ولَبَّسا زَوقو

يا خاطيِه مَرَّه... وطِلِع خِلْقو

ومن كَفّ ما تَنّاه... مِزْرَقَّه.