أجنبيات مولعات بالخطوط العربية

القاهرة - جمال سالم 15 سبتمبر 2019
في الوقت الذي يتفاخر فيه البعض بإجادته التحدّث باللغات الأجنبية بطلاقة، ويفضل أحياناً كثيرة التكلّمَ بها في حياته اليومية على التحدث بلغتنا العربية، نجد أجنبيات مولعاتٍ بالثقافة العربية بعامة، والخط العربي والزخرفة الإسلامية بخاصة، وأبدعن فيها لدرجة تفوّقن بها على بنات العربية وأبنائها.

واغتنت مواهب الأجنبيات اللواتي صقلنها بالدراسة الأكاديمية والممارسة العملية، حتى أن بعضهن قرّر الإقامة في مصر والزواج من أبنائها، فما هي قصص الأجنبيات المُحبّات للخط العربي؟


البداية مع الخطّاطة الإيطالية أنطونيلا ليوني، التي تروي قصّتها قائلةً: "ولدتُ في إيطاليا عام 1959، في أسرة تمتاز بالشغف لفنون كل شعوب العالم، ولهذا شجّعتني على الدراسة والتخصّص في الفنون الإسلامية، عبر التحاقي بإحدى الأكاديميات في إيطاليا، ثم الحصول على دبلوم الفن الآسيوي من المتحف البريطاني، حيث اطّلعت على بعض تحف الفن الإسلامي، ثم نلت دبلوماً معتمَدةً من كلية هولوواي الملكية التابعة لجامعة لندن، كما أتممت بامتياز دراسة الفنون الكلاسيكية والديكورية للعالم الإسلامي في 2003، وربما يكون سبب اهتمامي بالثقافة العربية والإسلامية، هو احترامي وتقديري لمختلف الثقافات وعشقي للجماليات، وهذا ما جعلني أبحث عن مصادر تعزيزها في جماليات الخط العربي، وفن الإبرو التركي".

الخط يجمعنا

توضح أنطونيلا، أن بداية معرفتها بفن "الإبرو"، وهو فن تركي يمارس الفنان فيه الرسم على الماء، كانت في ملتقى القاهرة الدولي للخط العربي 2015. والغريب أن فن "الإبرو" لا تتوافر عنه كتب تكفي لتعلّمه، بل يكتسبه الفنانون بالممارسة جيلاً بعد جيل، ولهذا فإن قلةً من الفنانين تمارسه. لكن أنطونيلا لم تكتفِ بذلك، بل انخرطت بالدراسة في "أكاديمية الخط العربي" في القاهرة، لإشباع نهمها إلى معرفة كل عناصر الفن العربي والإسلامي في مجالَي الزخرفة والخط.

تشير الفنانة الإيطالية إلى أنها قررت الاستقرار في مصر لصقل موهبتها بالدراسة، والمشاركة في فعاليات الخط العربي والزخرفة الإسلامية، وتضيف: "أهم مشاركاتي كانت في معارض قصر الفنون في دار الأوبرا المصرية، وكذلك الفعاليات الثقافية للمركز الثقافي الإيطالي في القاهرة، وغاليري 14 في الأردن، ومعرض مكتبة الإسكندرية، ومعرض مكتبة القاهرة الكبرى وقصر الأمير طاز، ثمّ انتقلتُ بمعارضي إلى صعيد مصر، وبالتحديد في قصر ثقافة مدينة الأقصر، التي تضم ثلث آثار العالم، وشاهدَ لوحاتي المصريون والسيّاح الأجانب، لأن فنون الخط العربي ولوحاته أصبحت مادة فنية ثرية جداً، تجتذب أنظار عشاق الفنون في العالم، وباتت صالات المزاد العالمية تحرص على عرض لوحاتي للخط العربي بين معروضاتها، وشاركت خلال هذه المعارض بأعمال تجْمع بين الخط العربي وفن "الإبرو"، بالإضافة إلى مشاركات أخرى في فعاليات ثقافية في مصر ودول عربية أخرى".

وتخبرنا أنطونيلا عن استفادتها الكبيرة من الحِرفية العالية التي يتصف بها الخطّاطون المصريون، الذين درست على أيديهم ثم عملت معهم، وساهموا في وصولها إلى العالمية وإغناء خبرتها، وضبط إيقاع لوحاتها، فضلاً عن اطّلاعها على لوحاتهم النادرة، ولهذا كله فقد "كنت وما زلت محظوظة بالاستقرار والعمل في القاهرة، التي تُعدّ بحق عاصمة فن الخط العربي والزخرفة الإسلامية"، وعقّبت على ذلك بقولها: "سأبقى في القاهرة ما حييت حتى أستمتع بدراسة الفنون والثقافة العربية، وتحديداً في أكاديمية الخطوط العربية في القاهرة، التي تعد بحقٍّ من أفضل مدارس تعليم فنون الخط العربي، وأكسبتني خبرة كبيرة في مجال الفنون الخطّية العربية".

تلفت أنطونيلا إلى أن هناك انجذاباً وإعجاباً كبيرين لدى الفنانين الإيطاليين عبر التاريخ؛ بفنون الثقافة العربية على اختلافها، بسبب الجوار الجغرافي والتلاقي التاريخي. "لا عجب في ذلك" تقول وتضيف: "الخط العربي أحد الفنون القليلة التي تجمع الجمال والإبهار إلى البساطة في التعبير عن الفكر والمشاعر". وتتطرق أنطونيلا إلى العلاقة الوثيقة التي تربطها مع الخطّاطين المصريين من خلال "الجمعية المصرية العامة للخط العربي"، والتي دائماً ما تدعوها إلى المشاركة بعرض لوحاتها أو تكريمها كضيفة شرف على المعارض الدولية، ومنها معرض عنوانه "الخط يجمعنا" الذي عُقد عام 2018 في بيت السناري الأثري في القاهرة، وضمّ روائع الكتابات والأعمال الخطّية والزخرفية للمحترفين والهواة المصريين والأجانب، وكان من أهدافه إلقاء الضوء على الجهود المبذولة لتصحيح الصورة الخاطئة عن العرب المسلمين التي صدّرتها الجماعات المتطرفة الى العالم، وإبراز اهتمامهم عبر التاريخ حتى الآن، باستخدام الفنون الراقية، خاصة الخط العربي في نصوص القرآن والأحاديث النبوية والأشعار والحِكم التي تتحدث عن سماحة الإسلام ووسطيته، في صورة فنية بعمل كلاسيكي أو بالاتجاهات الخطّية الحديثة، وشارك في هذا المعرض 48 خطّاطاً وخطّاطة من المصريين، و21 خطّاطاً وخطّاطة من الأجانب من مختلف قارات العالم، افتتحه الفنان العالمي خضير البورسعيدي، رئيس الجمعية المصرية العامة للخط العربي، الذي أكد أهمية الحفاظ على فن الخط العربي وإبرازه وتشجيع محبّيه من غير العرب، خاصة في ظل ما يواجهه هذا الفن من إهمالٍ وتهميش".

تعتزّ أنطونيلا كثيراً بقول باولو سباتيني، مدير المعهد الثقافي الإيطالي في القاهرة عنها: "إنها سيدة ذات حسٍّ عالٍ ومرهف، إحدى الإيطاليات المنشغلات بالثقافة المصرية والعربية، كما أنها خطّاطة عالية الحِرفية، أتقنتْ فن "الإبرو" الصعب ذا الأصول العثمانية منذ فترة طويلة، وتخصّصت على أيدي أساتذة عظماء في منطقة الشرق الأوسط والأدنى في هذا المجال، حتى وصلت إلى مستوى عالٍ من البراعة والأستاذية". كذلك تعتز أنطونيلا بأنها تتلمذت على يد الدكتورة صبيحة الخمير، والخطّاط الدولي صلاح عبدالخالق، سكرتير عام الجمعية المصرية للخط العربي، وقد ساهما في شحذ ميولها لفنون الحضارة العربية والإسلامية، واحترام الحضارات، وتذوّق الجمال مجسَّداً في الخطوط والرسوم والزخرفة والأرابيسك".

رحلة شيقة

في محطتنا الثانية، تروي لنا إيزابيلا ماريا أوخمن، الفنانة والخطّاطة البولندية رحلتها مع الخط العربي قائلةً: "بدأتُ الرحلة من خلال دراستي للثقافة العربية في بولندا، والتخصّص في الترميم الدقيق للآثار، حتى حصلت على درجة الماجستير بامتياز عام 2002 من أكاديمية الفنون الجميلة في العاصمة البولندية وارسو، وعملت في قسم ترميم اللوحات والمنحوتات متعددة الألوان، ثم توجّهت إلى القاهرة للمشاركة في الحفاظ على التراث المصري من خلال عملي كأخصائية ترميم مع وزارة الآثار المصرية، ومركز الترميم التابع للمتحف المصري الكبير، ووكالة التعاون الدولي اليابانية، والمركز البولندي للآثار في منطقة البحر المتوسط وجامعة وارسو، وشاركت في الكثير من المشاريع الأثرية في مصر وسورية ولبنان، أهمها مشروع حفظ وترميم معبد حتشبسوت في الأقصر، ومشروع ترميم قارب خوفو الثاني في الجيزة.

بعد هذا التعريف الموجز، تكشف إيزابيلا أن ولعها باللغة العربية إلى جانب الآثار، هو ما قادها إلى استكشاف الخط العربي كأداة للتعبير الفني، ثم طوّرت مهاراتها اللغوية التي بدأت بالدراسة في أروقة جامعة وارسو، وجمعية الصداقة البولندية- العربية، وصولاً إلى عملها كمحاضِرة في كليه الألسنية في جامعة عين شمس.

وعن جوانب تميّزها، تقول إيزابيلا: "حاولت من خلال ولعي بالآثار والكتابة العربية، أن تتمحور أعمالي الفنية حول محاولة خلق حوار بين الكتابة والفنون الأخرى، كالرسوم الأثرية، حيث يتلاقى معنى الكلمة وشكلها الجمالي، والانسجام بين الأفكار والعلامات، وشاركت في العديد من المعارض الشخصية والعامة، وأهمها: معرض "التعايش" ومعرض "ترانيم السلام 1"، بالاشتراك مع الخطّاط المصري الشهير صلاح عبدالخالق، في المركز المصري للتعاون الثقافي الدولي، تحت رعاية وزارة الثقافة، ومعرض "ترانيم السلام 2" في مكتبة القاهرة الكبرى، بالتعاون مع هيئة مكتب سفراء السلام في مصر وتحت رعاية وزارة الثقافة، ومعرض "هلم نكتب الكوميديا الإلهية"، بالاشتراك مع مجموعة من الفنانين المصريين والأجانب في ملتقى التقاليد الثلاثة حول فن الخط في مصر بالمعهد الثقافي الإيطالي في القاهرة، ومعرض "فنانات الخط العربي"، بالاشتراك مع مجموعة من الفنانات العربيات في بيت السحيمي، تحت رعاية صندوق التنمية الثقافية وديوان الخط العربي في بيت السحيمي، ومعرض "على حد الكلمة"، وهو معرض شخصي في بيت الفن في وارسو، تحت رعاية السفارة المصرية في بولندا، ومعرض "إبداعات خطية بأنامل نسائية"، بالاشتراك مع مجموعة من فنّانات الخط العربي برعاية وزارة الثقافة، ومعرض "السلطان بين القديم والحديث"، بالاشتراك مع مجموعة من الفنون المختلفة من تنظيم أركينوس للعمارة وتمويل الاتحاد الأوروبي، ومعرض "عندما لمس الضوء الألف" ومعرض "بالنيابة عن النساء"، ومعرض "ما بين الكلمات"، الذي يقدّم تصوراً لبعض الأمثال العربية من خلال الخطوط والرسوم والصور برعاية مؤسسة بلاسي المجرية في القاهرة، وأخيراً المشاركة في الدورة الرابعة من ملتقى القاهرة الدولي لفن الخط العربي كضيفة شرف".

تنهي إيزابيلا كلامها مشيرةً إلى أن علاقتها باللغة والمجتمعات العربية توطدت أكثر "بزواجها من مهندس مصري، جمعَنا الاهتمام بترميم الآثار وحب الفنون، وأعيش معه في القاهرة، ونسافر على فترات متقطعة إلى بولندا، ولي أصدقاء كثيرون من المثقفين العرب، وأستعد حالياً لإقامة معرض عالمي عن "التسامح بين الأديان"، حيث نعمل على كتابة نصوص من القرآن والإنجيل والتوراة، بالاشتراك مع الخطّاط المصري العالمي صلاح عبدالخالق، انطلاقاً من مبادرة شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان في التعايش بين أتباع الأديان، وسيُعرض هذا العام في العديد من الدول، وفي مقدّمها مصر وبولندا".

شغف بلا حدود

لم تنتهِ بنا محطات الإبداع عند الأوروبيات، بل تابعنا حواراتنا لنجد أن هناك آسيويات وأميركيات كثيرات وقعن في هوى الخط العربي، وترعاهن الجمعية المصرية للخط العربي برئاسة الفنان خضير البورسعيدي، وعضوية سكرتيرها العام الفنان صلاح عبدالخالق، حيث تمنح المتخرجات "إجازة إجادة خط عربي" موقّعة من الجمعية، وتحضر قيادات الجمعية معارضهن، وآخرها معرض نظّمه المركز المصري للتعاون الثقافي الدولي.

عبّرت الخطّاطات من ماليزيا وإندونيسيا والولايات المتحدة، عن اعتزازهن الكبير بدراسة وإجادة الخط العربي، باعتباره الخط الذي يُكتب به القرآن الكريم، ثم باعتباره فناً متميزاً عن كل الخطوط التي تُكتب بها اللغات العالمية الأخرى، نظراً لما يتمتع به من مساحة واسعة للإبداع بخطوطه المختلفة، ولهذا فإن بعضهن يدرسنه إلى جانب دراستهن في جامعات الأزهر والقاهرة وعين شمس، حيث يدرسن اللغة العربية بالإضافة إلى حضورهن الدورات التي تنظّمها الجمعية المصرية للخط العربي، والأكاديمية المصرية للخط العربي، أو أي مدرسة خط قريبة من مساكنهن في القاهرة.

تقول عائشة عثمان، الأميركية ذات الأصول الماليزية، إنها من مواليد الولايات المتحدة، وأسرتها تعمل هناك، غير أنها مالت إلى دراسة الخط العربي من خلال قراءتها في القرآن الكريم، ودرست أيضاً القانون في الولايات المتحدة وتعمل محامية هناك، إلا أنها قررت استكمال الدراسات العليا في جامعة الأزهر لدراسة العلوم العربية والإسلامية، حيث تعرفت إلى مسؤولي الجمعية المصرية للخط العربي، وتتلمذت على يديّ الخطّاط صلاح عبدالخالق، فعلّمها أصول الخط مع زوجها محمد شريف، الأميركي ذي الأصل الماليزي، وهو دارس للعلوم الإسلامية، وحصلا على إجازة في الخط الكوفي الفاطمي، ويدرسان حالياً الكوفي القيرواني.

وتوضح عائشة أنها تستمتع بدراسة فنون الخط العربي وجمالياته، وتعتزم الحصول على إجازات في كل أنواع الخطوط، وتشجع كل من تعرفهنّ من أقاربها في ماليزيا والولايات المتحدة، بل وفي أي مكان في العالم، على دراسة الخط العربي الذي له صفات متفردة ومتميزة عن غيره من خطوط اللغات العالمية.

وتختتم عائشة حديثها، لافتةً الى أنها شاركت في العديد من المعارض ونالت شهادات تقدير منها، اعترافاً من القائمين عليها بإجادتها للخط العربي، ومع ذلك فإن رحلتها مع هذا الفن لا تزال في بدايتها، ولن تتوقف حتى تجيد كل الخطوط، وتحصل فيها على إجازات من كبار الخطّاطين في مصر وخارجها، يساعدها في ذلك أنها على تواصل مستمر مع كبار الخطّاطين في الوطن العربي، وعلى رأسهم الخطاط المغربي الشهير بلعيد حميدي.

تواصل ثقافي

يُعلِمنا الخطّاط المصري الدولي صلاح عبدالخالق، سكرتير عام الجمعية المصرية للخط العربي، أنه تقابل مع أنطونيلا وإيزابيلا منذ فترة طويلة، منذ مجيئهما إلى القاهرة قبل سنوات، وقدّم لهما المساعدة في دراسة الخط العربي وفن الزخرفة، وعرّفهما على الوسط الثقافي المصري.

ويتابع: "هذه العلاقة توطدت من خلال علاقة الجمعية المصرية للخط العربي بالمراكز الثقافية التابعة للسفارات الأجنبية في القاهرة، وفي مقدّمها المركز الثقافي في سفارتَي إيطاليا وبولندا، وتم الاتفاق على إقامة معارض مشتركة يشارك فيها الخطّاطون والخطّاطات من مصر والدول العربية مع الخطّاطات الأجنبيات، وخاصة أنطونيلا وإيزابيلا، ولا تزال هذه اللقاءات مستمرة حيث قدمتهما إلى المؤسسات الثقافية المصرية، ووزارة الثقافة، ويشاركان في المعارض بلوحاتهما، كما يحلاّن ضيفيَ شرف على أهم المنتديات الثقافية".

وينهي عبدالخالق كلامه مشيراً إلى الاستعدادات الجارية حثيثاً لإقامة المعرض العالمي حول "التسامح بين الأديان"، الذي تحدثت عنه المبدعة إيزابيلا.

دعم وتشجيع

أكد الخطّاط العالمي خضير البورسعيدي، رئيس الجمعية المصرية للخط العربي، تقديمه كل الدعم والتشجيع للخطّاطات الأجنبيات من مختلف قارات العالم، لأن هذا تأكيد على عالمية ثقافتنا العربية والإسلامية، مما يخلق نوعاً من التلاقي الحضاري في مواجهة دعاة صراع الحضارات.

وأشار البورسعيدي إلى الجهود المستمرة التي يبذلها هو ورفاقه في سبيل تذليل الصعاب التي تحول دون دراسة الخطّاطات الأجنبيات في الأكاديمية المصرية للخط العربي أو غيرها من مدارس الخط العربي، كما يجري تعريفهن بالمؤسسات الثقافية المصرية والعربية خلال معارض الخط العربي، أو المؤتمرات والندوات التي تهتم بمختلف الفنون العربية، وفي مقدّمها الخط العربي، ولهذا تُعدّ هؤلاء الخطّاطات همزة وصل حضاري بيننا وبين مجتمعاتهن ومحاصرة تيار العداء الحضاري الذي يقوده أعداء الإنسانية.