عندما يتبرأ زياد الرحباني من ابنه عاصي

عاصي زياد الرحباني, زياد الرحباني, دلال كرم

24 أبريل 2009

كان يدعى عاصي زياد الرحباني، كان والده زياد وجدّه عاصي وجدّته فيروز... وعندما بلغ الخامسة والعشرين اكتشف فجأة أنه ليس الابن ولا الحفيد وأن عائلته ليست الرحباني. وعمّا قليل سيصبح من مكتومي القيد، هذه الفئة من المواطنين الذين ولدوا سفاحاً، والدهم مجهول الهوية يحملون أسماءهم فقط ولا عائلة لهم... هذا ما ستحكم به المحكمة - كما يقال - بعد أن أثبت فحص الحمض النووي (دي. أن. إي) أن زياد الرحباني ليس والد ابنه عاصي.

هذه ليست قصة أحد المسلسلات المكسيكية القائمة على «المفارقات» بل مأساة رحبانية تضاف الى مآسي هذه العائلة العظيمة التي كانت السيدة فيروز شاهدة عليها. هل هو قدر هذه المطربة الكبيرة أن تعيش هذه اللحظة الأليمة أم هو قدر عاصي زوجها ولو كان في القبر؟ لكن المأساة الحقيقية، هي مأساة هذا الشاب الذي سيصبح اسمه عاصي فقط، والذي سيبدأ منذ اليوم رحلة البحث عن والد له مجهول، عبر حياة أمه التي تدعى دلال كرم. لو كان القانون اللبناني يسمح بإطلاق اسم عائلة الأم على أبنائها، كما في معظم البلدان، فالأمر كان ليبدو سهلاً. لكن القانون «الذكوري» لا يرحم. فهذا الشاب كان يميل الى أمّه أصلاً التي نشأ في كنفها ولم يكن والده حاضراً في حياته كما تفترض الحياة العائلية. لقد فتح عاصي الفتى عينيه على مأساة ما برحت أن اتسعت لتصبح مأساة انتماء أو هوية. كان زياد الرحباني - على ما يبدو - يشك في أبوته لعاصي، لكنه كما يقول بعض أصدقائه، كان يتجاهل الأمر، حتى خطر له يوماً، بعد تصريحات صحافية فاضحة أدلت بها زوجته السابقة دلال الى إحدى المجلات الفنية، أن يخضع هو وابنه لفحص الحمض النووي. كان ذلك عام ٢٠٠٤ وجاءت النتيجة سلبية: عاصي الحفيد ليس ابن زياد.

لكن زياد لم يكشف السرّ إلا لأصدقاء قلّة يثق بهم، وظل على علاقته، غير الطبيعية أصلاً، بعاصي، يوفّر له من بعيد بعض المال ليواصل دراسته ويتدبر أموره. إلا أن دلال لم توقف تصريحاتها الصحافية «المعادية» أو الفاضحة، وكانت تتحدث عن الوجه الآخر لزياد، الوجه المجهول والذي ينمّ عن رجل لا يحب الحياة العائلية ولا يبالي بزوجته وابنه ويمضي كل وقته في العمل الموسيقي، عزفاً وتأليفاً، وقد حوّل منزله الصغير الى استديو يؤمه العازفون والرفاق «الشيوعيون»... ولم تتوان عن فضح علاقته الغرامية أو خيانته لها. لم يتحمل زياد ما كانت تدلي به زوجته السابقة الى الصحافة فهددها قبل أربعة أعوام بفضح قضية عاصي التي لم تكن حينذاك على معرفة بها، فدفعها خوفها من الفضيحة الى الصمت وعدم الإدلاء بأي حديث صحافيّ. فابنها هو كل شيء في حياتها ولا يمكنها أن تجرح شعوره. ومنذ ذاك الحين غابت دلال عن الأضواء ولم يعد أحد يذكرها.

ولكن لم تمضِ بضعة أعوام حتى تخرّج عاصي في جامعة الكسليك - وهي جامعة ذات توجه مسيحي ماروني - حاملاً شهادة في الاخراج التلفزيوني والسينمائي. وكان عليه أن ينجز فيلمه الأول وسمّاه «بيروت وبيروت وبيروت» وقد حاز إعجاب اللجنة الأكاديمية الفاحصة، كفيلم تخرّج. وعندما شارك عاصي في مهرجان «سينمائيات» في قرية اهدن في محافظة الشمال فاز الفيلم بجائزة «التفاحة الذهبية»، ثم عرض الفيلم القصير في مهرجان دمشق السينمائي الدولي ونال استحسان الجمهور، وكان المهرجان مناسبة لعاصي كي ينطلق عالمياً بعد تعرفه الى مخرجين ومؤسسات عالمية تعنى بالسينما. ويدور الفيلم حول صحافي أميركي يأتي الى بيروت وفي ظنه أن الحرب ما زالت قائمة، وهدفه تصوير الحرب والكتابة عنها. تبدأ اللحظة الأولى في الفيلم لدى وصوله الى مطار بيروت، وانطلاقاً من هناك، برفقة سائق تاكسي، يجوب بيروت ويكتشف أحياءها أو «مناطقها» التي تختلف طائفياً وثقافياً، لكنه يدرك أن ثمة قواسم تجمع أهلها، وهي القيم التي توارثوها ولم تقضِ الحرب عليها.


الابن لا يشبه أباه

بدا عاصي «الابن» مختلفاً عن «والده» زياد. فالأب شديد التشاؤم حيال الأوضاع في لبنان الذي كان يحلم في مطلع شبابه بتغيير صورته أو لنقل نظامه، وقد التحق باليسار اللبناني والحزب الشيوعي منذ بداية الحرب عام ١٩٧٥ وانتقل للعيش في بيروت الغربية هاجراً بيت أبيه وأمه في ضواحي انطلياس. أما «الابن» عاصي فنشأ نشأة سياسية مختلفة، فالجو الذي عاش فيه في المنطقة الشرقية كان لبنانياً جداً ويمينياً ان جاز القول، وكذلك الوسط العائلي المسيحي الماروني. ولم يكن مستغرباً أن يؤيد الجنرال ميشال عون عندما أعلن حرب التحرير ضد الجيش السوري، ثم ما لبث أن انقلب في موقفه ليؤيد تيار ١٤ آذار المناهض لسورية. لكنه سرعان ما اكتشف عبثية الانتماء السياسي في لبنان، وآثر أن يبتعد عن أي تكتل أو اتجاه، محققاً حريته الشخصية كمواطن لبناني يرفض الطائفية ويدعو الى وحدة لبنان. ولعل هذا ما عبّر عنه في فيلمه.

زياد الرحباني لم يكن راضياً على التحاق عاصي «الابن» بجامعة الكسليك المعروفة بنزعتها المسيحية والمارونية. ولم يخيّل اليه مرة أن «ابنه» سيدرس في مثل هذه الجامعة، هو اليساري والعلماني. وهذه الدراسة الجامعية «الموجّهة» ساهمت في توتير العلاقة بينهما، لا سيما بعد الانفصال الرسمي بين زياد ودلال أو «دودو» كما كانت معروفة وهو اسم «الدلال» الذي أطلقه عليها زياد أيام كان الحب سيد العلاقة وأيام كتب لها ولحن أغنية «مربى الدلال». وكان عاصي نادراً ما يرى زياد، وكان زياد يكتفي بإرسال مبلغ المال له كمصروف شهريّ. ولكن عاصي كان يفخر دوماً بزياد «أبيه» وبعائلته، لكنه يرفض أن يعامل كحفيد رحباني فقط، فما يهمه هو أن يحقق طموحاته بنفسه بعيداً من الشهرة العائلية.

إلا أن عاصي الصغير ليس ربيب الأسرة الرحبانية. فهو أصلاً لم يعش مع والده إلا في الأشهر الأولى، ولا عرف عاصي الكبير وفيروز عن كثب. وعندما انفصل زياد عن دلال أو دلال عن زياد، كان عمر عاصي ثلاثة أشهر. وراحت المشاكل تتكاثر بعد ذاك. كانت دلال، كما تخبر إحدى صديقاتها، لم تعد قادرة على العيش مع زياد، لا سيما بعد إنجابها عاصي وسعيها الى تأسيس عائلة. وكان زياد يحول دون تحويل جوّ منزله الذي هو عبارة عن استوديو الى جو عائلي. فهو كان يعيش حياته بحرية تامة، يسهر ويشرب وكأنه ليس متزوجاً ولا أباً.

شك فيروز
تزوج زياد من دلال عام ١٩٧٩، كان له من العمر ٢٣ عاماً وكانت هي تصغره بسنة. فهو من مواليد عام ١٩٥٦، وقد تعرّف اليها في التمارين التي كانت تقام لمسرحية «ميس الريم». كانت هي تعمل في فرقة الدبكة وكان هو يرافق التمارين، فوقع الحب ثم كان الزواج. ويبدو أن عاصي وفيروز ما كانا راضيين عن هذا الزواج المبكر، فهما لم يزورا العريسين للتهنئة إلا بعد ٦ أشهر، أما هدية فيروز للعروس فكانت خاتماً اختارته من بين خواتمها. هذا الأمر ظلت دلال تردده أمام الأصدقاء معتبرة أن فيروز لم تحبها يوماً مثلما كانت فاترة في علاقتها بحفيدها عاصي. وهي لم تره أصلاً طوال أعوامه الخمسة والعشرين سوى أربع مرات. وهذه طبعاً ليست علاقة جدّة بحفيدها الوحيد الذي لن يكون لها أحد سواه. هل كانت تشك فيروز بأن عاصي ليس ابن زياد منذ ذلك الحين؟

لم يكن زياد يريد أن ينجب وقد أجبر زوجته على الإجهاض أربع مرات، كما اعترفت لاحقاً. لم يحب زياد فكرة الأبوّة، فهو لم يخلق ليصبح أباً. لكنه ما لبث أن وجد نفسه أباً من غير أن يريد. على أن مجيء عاصي الصغير لم يبدّل مزاجه الصعب وإدمانه الشرب وعيشه بحرية تامة وخيانته زوجته. وكانت دلال تقول دوماً انها هي الضحية، فلا عائلة ولا منزل ولا مال، وفوق كل هذا كان زياد يخونها. هذا ما صرّحت به مراراً. وقالت مرة أن زياد كان يخونها بمرأى منها وهي تعرف الكثير عن حياته العاطفية ما بعد الزواج. لكنها عندما تقدمت بدعوى الطلاق اعترفت أن زياد لم يرفع يده عليها مرة أو يضربها. كان زياد ينسحب كلما يبدأ التوتر في العلاقة. وقد حاولت دلال الانتحار مرتين بعد أن بلغت معاناتها الذروة. كانت الديون تتراكم وزياد غائب أو مع الشباب أو الرفاق، وهي وحدها ولولا مساعدة أهلها لماتت جوعاً كما تقول احدى صديقاتها.

لكنّ ما لا يمكن انكاره هو الحب الذي جمع بين زياد ودلال في الأعوام الأولى لزواجهما. كان الحب قوياً وكان يردّد لها: «أنت أمي وأختي وكل شيء في حياتي». وعندما اختلفا مرة عام ١٩٧٨، تركت بيروت وسافرت الى لندن. وكان على الشاعر جوزف حرب صديق زياد ودلال، أن يرسل اليها رسالة بخط يده ما زالت تملكها دلال وفيها يقول لها: «أعرف يا دلال، أعرف أنكِ رغم أي شيء، لا تزالين تحبين زياد(...). يجوز أنك الآن، مع فتى ما(...) حالة زياد اليوم مثل حالته عندما اتصلت بك للمرة الأولى، وان الشوق الذي يعانيه اليوم هو الشوق الذي كان يعانيه من قبل(...) لقد استسلمت اليه بضعف فتحطمتِ، ولقد استسلم اليك من قبل بضعف فتحطم، وهذا ما ولّد فيكما مرارة العذاب. وعندما كان مستسلماً اليك بضعف أهملته كثيراً وعندما كنتِ أنتِ مستسلمة اليه بضعف أهملك كثيراً، وهذا ما ولد فيكما حبّ الانتقام(...) منذ أربعة أشهر، لا أرى مرة زياد إلا ويحتال بطريقة ما، لنتحدث عنك. صدّقيني انه يتعذّب وهو كلما حاول الهروب الى امرأة أخرى، التقى بك وجهاً لوجه(...) رأيي أن تأتي الى بيروت مدة عشرة أيام فقط، وأن تكوني في هذه المدة، دلال الذكية القلب، تنزلين عندي، وعليك أن تختاري، فإما أن تقبلي دعوة زياد وإما أن تقبلي دعوتي، مع بطاقة سفر مدفوعة، ذهاباً واياباً، مني أو من زياد، لا فرق. ان مجيئك هو ضروري وملح، حتى ولو كان متأخراً بعض الوقت(...) وتأكدي، أنا لم أزل الى جانبك، وزياد يعرف ذلك».

رسالة من زياد الى دلال
ثم ما لبث زياد أن أرسل اليها رسائل عدة بخط يده ما زالت تحتفظ بها أيضاً، كما تحتفظ بالكثير من الأوراق والصور والمخطوطات المسرحية. وفي احدى الرسائل التي كتبها بالعامية يعبّر زياد عن حبه لها وعدم قدرته على العيش من دونها وهذه الرسالة أشبه بالوثيقة وفيها يقول: تحية وبعد... «أول شي كيفك، كيف أحوالك، كيف أيامك... ان شاء الله مش عم تلاقي صعوبات كثير بالعيشة... كيف درسك، كيف الطقس، ان شاء الله مش مزعج... كيف راسك، كيف ضهرك، كيف معدتك، كيف أعصابك... كيف شرب القهوة ان شاء الله عم تشربي كثير قهوة، ان شاء الله بتمنى... كيف صحتك... ليكي أنا بلغني في المكتوب العظيم اللي تركتيلي إياه قبل ما تزمطي الى لندن انك قررتي أنو ما بقا بدك تحبيني ورجع بعد فترة بلغني من الأستاذ رفيق نجم أنو بلشتي تكرهيني. هيدي شغلة على بعضها بتفزّع!! بكل الأحوال أنا ما الي علاقة بهالشغلة، القرار قراك أنتِ واصلاً ما كان في مجال للمناقشة لانك فليتي (والأصح «هربتي» أو إذا بدك «زمطتي»). بالنسبة لما يتعلق فيي، نتيجة قرارك الحاسم وسفرك الى لندن جرّبت أنو فتش على انسان جديد حبّو وبعد البحث والتدقيق عن هالإنسان، تبين أنو ما لقيتو... ما بعرف.

هلق بالنسبة لما يتعلق فيكِ، إذا حصل وانك لقيتي هالإنسان للي أنا فتشت عليه وما لقيتو، كان به... هلق إذا ما لقيتيه... ما بعرف شو رأيك؟

أنا رأيي انو بيكون من الأفضل انك ترجعي ومش بعد شهر، بكرا عا بكرا... لأنو كل الوقت اللي راح، راح ضيعان. وهالسوء التفاهم معي صرلو فترة حاصل بيني وبينك قد ما يكون وشو ما يكون، منقعد على طاولة ومنحللو. ليكي ولا يهمك في عندي 3، 4 طاولات رح نضل نقدر نحللو عا شي واحدة منهن... أنا أكيد... انو بيني وبينك ما في ولا مشكلة ما بتنحل، كلو بينحل. على فكرة أنا هيدا أل مكتوب ببعتو، وقصة المكتوب اللي وصلك مني شوي غريبة وفي شغلة من شغلتين:

١ - يا انك كنت طارقة شي ٦، ٧ سواغير قبل ما تكتبي هالشغلة.

٢ - يا انو قصدك تفهميني أنو ما تجرب تبعت مكتوب لأنو ما راح جاوب بالحالتين هي مش طريقة لشي. وليه أنت حمارة... يا حمارة يخرب بيتك شو حمارة. ليكي ديري بالك عا حالك لأنك حمارة... حمارة كبيرة بس ما تخللي حدا يعرف...».

ثم سافر زياد الى لندن وأعاد دلال معه الى بيروت لتبدأ حياتهما التي لم تعرف الاستقرار ولا الهناءة والتي لم تدم طويلاً.

شعر زياد في الآونة الأخيرة أنه لم يعد قادراً على الصمت في شأن عدم أبوته لعاصي، فالشاب الرحباني لم يدع فرصة إعلامية إلا تحدث فيها عن جذوره الرحبانية قائلاً انه سيكمل المشروع الرحباني ولكن على طريقته. مثل هذه التصريحات أثارت حفيظة زياد لا سيما ان عاصي بدأ يلمع اسمه في سماء الفن، فما كان منه إلا أن أقام دعوى أمام محكمة الدرجة الأولى في قضاء المتن الشمالي ناكراً فيها أبوّته لعاصي زياد الرحباني، وطالباً شطب اسمه عن خانته، ومنعه من استعمال شهرة الرحباني، وتدوين خلاصة الحكم في سجل النفوس. وكان رفع هذه الدعوى بمثابة الحدث، الذي سيثير الكثير من الضجة لاحقاً، بعد أن تلفظ المحكمة حكمها. فالأب هو زياد ابن عاصي وفيروز، وقد تبرأ من ابنه بعد أن أصبح ابنه في الخامسة والعشرين. وأكد زياد أخيراً لبعض الصحف أنه تمّ اجراء فحص للحمض النووي له ولعاصي أثبت أنه ليس أباه ولا هو ابنه. لكنه اعتبر أن عاصي لا ذنب له في هذه القضية المأسوية وانه هو أيضاً لا ذنب له فيها. وسمّى عاصي «هذا الإنسان» وكأنه تنصّل للتو من أبوّته.

لا أحد يعلم ردّ فعل عاصي، هذا الفنان الشاب الذي وجد نفسه ضحية مأساة لا علاقة له بها؟ وقد حاولنا الإتصال به إلا انه لم يرد. هل سيقبل فكرة أن يجرد من اسم عائلته ويصبح انساناً نكرة أم أنه سيسعى لاكتساب اسم عائلة أمه (كرم) أم أنه سيتزوج من فتاة ايطالية أعلن أخيراً أنه يحبها وأنها تحبه؟

بل كيف سيكون ردّ فعله عندما سينظر بدءاً من الآن الى صوره مع جدّه وأبيه وسائر الأسرة الرحبانية؟

لكن دلال كرم ستكون الأكثر تضرراً، فهي التي كانت تتحدث عن خيانة زياد لها لم تنج بدورها من فخّ الخيانة. والألسنة تنتظر مثل هذه الأخبار لتلوكها وتجعل منها قصة شعبية.