محمود ووالدته قصة أمل ونجاح... هكذا يتغلّبان على صعوبات طيف التوحّد

فرح جهمي 03 أبريل 2020

بات الطفل محمود حجازي الذي يعاني اضطراب طيف التوحّد نجماً حقيقياً بواسطة الكاميرا والأغاني، وأحدث ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي بفضل والدته السيدة فاتن مرعشلي التي أنشأت صفحة خاصة به على موقع "فايسبوك" وشاركت الناس براءته ولحظاته الإيجابية ومراحل تطور حالة اضطرابه الصعبة، ونجحت بعد سنوات من التعب في تحويل ما يراه البعض مأساة إلى قصة أمل ونجاح.


محمود والكاميرا قصة عشق لا تنتهي... بدأت قصته بمقطع فيديو على "فايسبوك" وهو يغنّي أغنية "شو حلو"، ولاقت انتشاراً ليحلّ بعدها ضيفاً على أهم البرامج التلفزيونية وينقل إلى كل العالم العربي تجربته الصعبة في مواجهة طيف التوحّد بكل مشاكله السلوكية والتنموية، وما يحمله من تأثير سلبي على مهارات الطفل الاجتماعية وتواصله مع الآخرين.

ومع تزايد أعداد الأطفال المصابين بطيف التوحد بشكل سريع في السنوات الأخيرة، كشفت دراسة جديدة أُجريت في جامعة "نيوجيرسي" أن "واحداً من كل 4 أطفال يعانون من التوحد بدون تشخيص". تروي والدة محمود والتي أصبحت مختصة في التربية الخاصة بمرض التوحّد، تجربتها الطويلة والمليئة بالصعوبات لتكون رسالة توعية إلى كل الأمهات اللواتي يعانين من وجود طفل مختلف في منزلهن.

في البداية، أكدت مرعشلي أنها بعد اكتشاف حالة طفلها الخاصة حين كان في الثانية من عمره، مرت كأي أمّ تعيش هذه المعاناة بحالة من النكران والاكتئاب، وبقيت على هذه الحال لسنوات طويلة قبل أن تتخذ قراراً جريئاً وحاسماً بتخطي "دور الضحية" والانتقال الى مرحلة تنمية شخصيتها وتعزيز ثقتها بنفسها لتصبح قوية، مستعينةً بجلسات العلاج النفسي لدى طبيب مختص، والمشاركة بعدها في العديد من المحاضرات وورش العمل التوعوية، إضافة إلى تثقيف نفسها وقراءة الكتب التي تُعنى بطيف التوحّد للتمكّن في النهاية من التصالح مع نفسها ومع حالة طفلها المختلفة والتغلب على المشاعر السيئة والأفكار السلبية التي تعشش في رأسها، وكذلك تحمّل كل الضربات الصعبة التي تتلقاه من المجتمع والتخلص نهائياً من نظرات الشفقة عليها. لذا أنشأت في البداية صفحة خاصة على "فايسبوك" باسم Proud of my soon with Awesomeness (فخورة بابني المذهل)، وحوّلت معاناتها وتجربتها الشخصية مع هذا المرض إلى منبر لتوعية الأهالي في العالم العربي بكيفية التعامل مع أطفالهم المصابين بالتوحّد.


سلوك أطفال التوحّد ونصائح للأهالي

تحدثت والدة محمود عن أهم السلوكيات والعلامات التي يمكن ملاحظتها بوضوح على الأطفال المصابين بالتوحّد في عمر مبكر، ومن أهمها عدم تفاعل الطفل مع الحدث كأن لا يبكي إذا وقع على الأرض أو في حال الصراخ عليه، وعدم التأثر إلا في بعض الحالات النادرة والخطيرة جداً، الضحك بصعوبة، وعدم القدرة على التمييز بين أهله والغريب أو بين الوجوه، والمسألة الأكثر شيوعاً هي انعدام التواصل بالعينين مع الآخرين. وإذا تحدّث الطفل فقد يُصدر أصواتاً غريبة مثل طريقة الـecholalia. ويمكن ملاحظة الاختلاف أيضاً إذا كان الطفل يمشي دائماً على أطراف أصابعه. ومن الطبيعي أن يكون لدى أطفال التوحّد أنشطة وأنماط سلوكية مختلفة عن باقي الأطفال، مثل تكرار الكلمات أو حركات الجسم المتنوعة كاهتزاز القدم أو رفرفة اليد أو الدوران... وكلها إشارات خطرة، على الأهالي التنبّه إليها وملاحظتها".

وأشارت مرعشلي إلى أن "النكران" من أبرز الأخطاء التي يقع فيها الأهل بعد اكتشاف إصابة طفلهم بطيف التوحّد، لافتةً إلى أن أغلب الأهل يضيّعون أهم سنوات من عمر الطفل، والتي يمكن استغلالها لعلاجه في النكران والرفض، الأمر الذي يؤثر سلباً في الجميع، لأنه كلما بدأ العلاج في وقت أبكر تحسّن الطفل أسرع. كما أكدت مرعشلي حاجة الأهل مهما كانت شخصيتهم قوية، إلى استشارة المعالِج النفسي ليساعدهم في تقبّل حالة طفلهم وحياتهم الجديدة معه، موضحةً أن الرفض لا يُجدي نفعاً، بل يزيد الضرر على الأطفال، لأن حالة الطفل الخاصة باتت واقعاً والنكران لا يعني حلّ المشكلة.

ولفتت مرعشلي إلى أن "من المتوقع أن تصل نسبة الحالات الخاصة والإعاقات في العالم في العام 2020 إلى نحو المليار حالة. وهذه النسبة ترتفع بشكل سريع ومخيف، وليس هناك أي عائلة في منأى عنه، لذا فما من سبب للخجل من هؤلاء الملائكة، لأنه بمقدار ما نتقبّل حالتهم بسرعة، نساعدهم على التحسّن والاندماج في المجتمع في وقت أقل".

الدعم النفسي ودور الأهل في تطوير حياة طفل التوحّد

تقع على الأهل مسؤولية كبيرة، خاصة في مجتمعاتنا العربية، حيث يلعبون كل الأدوار بسبب تقديمات أغلب الحكومات المحدودة والضعيفة. والمسؤولية لا تبدأ فقط بتقوية أنفسهم لتقبّل اختلاف طفلهم، إنما أيضاً تشمل الدائرة الصغيرة المحيطة بالعائلة كالأقارب والجيران وصولاً إلى الدائرة الكبيرة، وهي المجتمع ليتمكنوا من فرض حالة الطفل فيه وتأمين احترامه من الجميع.

وفي هذا السياق، تحدثت مرعشلي عن أهمية الدعم النفسي لأي عائلة بعد اكتشاف إصابة طفلها بطيف التوحّد كخطوة أولى، لأنه كلما كان الإنسان متصالحاً مع نفسه وسليماً نفسياً، تكون شخصيته أقوى وقادرة على تلقي الضربات من الخارج. أما الخطوة الثانية فتتمثّل في ألاّ تهمل الأمّ نفسها وتركز انتباهها على طفلها المصاب فقط، لأنها إن فعلت ذلك وسط الضغوط اليومية فسوف تعاني تعباً جسدياً كبيراً بعد حين. لذا، على الأمهات التنبّه إلى حالتهن النفسية والاعتناء بأنفسهن من أجل صحّتهن الجسدية أولاً وأطفالهن ثانياً.

وعلّلت مرعشلي دورها كأمّ في تحدّي الآخرين وتوعيتهم بحالة ابنها، مؤكدةً أنها اضطرت إلى إنشاء صفحة على "فايسبوك" لتتمكن عبرها من توجيه رسائل توعوية وقول وما لا يمكنها قوله لأقاربها، وبالتالي إيصال الصفات الإيجابية التي يتمتع بها محمود وأي طفل يعاني مثله طيف التوحّد، وذلك لتغيير نظرة الناس إليهم وليرى الجميع أنهم يفهمون ويشعرون ويتفاعلون مع أي تصرف بسيط معهم، ليصبح تقبّل تلك الحالات الخاصة أسهل ولتفرض احترامهم وتحقق لهم الدعم من المجتمع.

وأكدت مرعشلي أنها اختارت أن يكون هدف الصفحة هو الأمل والحب، لذا فهي تحرص دائماً على توثيق لحظات محمود الهادئة والإيجابية فقط، لكن في الحقيقة حياة طفلها ليست "وردية دائماً كما يعتقد الناس"، بل تواجه الكثير من الصعوبات في تعاملها معه، وتحاول تحييد معاناتها عن الصفحة لإيصال رسالتها بشكل أفضل، واحتراماً لخصوصية طفلها في حال استطاع في المستقبل أن يصبح مستقلاً وقادراً على العمل والعيش في منزل بمفرده، من دون أن يترك ما تنشره والدته اليوم على صفحتها أي أثر سلبي فيه.


التواصل والاحتضان لمواجهة الحالات العصبية

وعن طريقتها كاختصاصية في مواجهة الحالات العصبية وفقدان التواصل مع محمود، قالت مرعشلي: "شخصياً، حين أصل الى مرحلة لا يمكنني فيها تحمل الضغط الناجم عن كثرة حركات ابني، أبتعد عنه لفترة، وقد أترك أحياناً غرفته وأخرج من المنزل وأمشي في الشوارع ريثما أرتاح وأهدأ لأتمكن مجدداً من التصرف معه بحكمة وواقعية، وأعالج حالات الانهيار العصبي التي يعانيها بالتحدّث معه أو احتضانه أو تذكيره بالتدريبات السلوكية التي يحفظها".

وأضافت: "أحياناً أتركه مع نفسه ليخرج من حالة العصبية التي توتّره، وأُفسح له المجال ليقوم بما يحلو له طالما أنه لا يؤذي نفسه أو يؤذي من هم حوله. هذه مساحة خاصة به وله الحرية بأن يفعل ما يشاء. وإذا لم نتقبّل حركات أطفال التوحّد وسلوكهم فهذه مشكلتنا، لأن هذا واقعهم وعلينا أن نتقبّلهم كما هم".

وأوضحت مرعشلي أن خطوات التقدّم في التواصل مع المصابين بطيف التوحد وعلاجهم لا تكون منتظمة دائماً، بحيث يشهد بعضهم أحياناً حالة من التراجع السلوكي المفاجئ والعصبية الزائدة والضعف في التركيز، والتي قد يكون سببها مرورهم بمرحلة المراهقة مثلاً، كما يحصل مع محمود في الفترة الحالية، ومن المهم التنبّه الى هذه النقطة من أجل احتواء الأطفال ومساعدتهم لمواجهة تلك الفترة الدقيقة، لأنها ستمر في النهاية وسيعودون كما كانوا في السابق.


تجدر الاشارة الى أن طيف التوحّد هو اضطراب عصبي يسبب خللاً في عمل خلايا الدماغ ويظهر على شكل أعراض أو نوبات مفاجئة لدى الأطفال، وقد يبدأ من سنّ الرضاعة ويستمر إلى آخر يوم من حياة الشخص المصاب. وإلى الآن لم تُحدّد أسباب واضحة لطيف التوحّد، ومع ذلك تشير إحدى الدراسات الحديثة الى أن هذا الاضطراب يمكن أن تكون له علاقة بالاختلافات في كيفية تطوّر الدماغ قبل الولادة وخلال السنوات القليلة الأولى من الحياة. كما أن لا فحوصات مخبرية تساهم في تشخيص حالة التوحّد، ولا علاج طبيّاً له حتى الآن.

واضطراب طيف التوحّد هو الحالة التنموية الأكثر شيوعاً في السنوات الأخيرة، حيث إن واحداً من أصل 100 شخص يعاني هذا الاضطراب، وأربعة من أصل خمسة أشخاص هم من الذكور. ويشكو المصاب بالتوحّد من صعوبة في الاتصال والتعامل مع الآخرين، وقد يكون المصاب غريب التصرفات والسلوك والطباع، لكنه يستجيب بشكل جيد لبرامج التعليم المتخصصة والمنظّمة والتي تختلف من شخص إلى آخر بحسب حالته. ومن أهم تلك البرامج: التدريب السلوكي، علاج التواصل، تنمية المهارات الاجتماعية، والعلاج الحركي الحسّي.

وأعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة تاريخ 2 نيسان/أبريل يوماً عالمياً للتوعية بمرض التوحّد (القرار 139/62) لتسليط الضوء على الحاجة للمساعدة على تحسين نوعية حياة المصابين حتى يتمكنوا من العيش بكرامة ويكونوا جزءاً لا يتجزأ من المجتمع.