"عابر الدهشة" ندى الحاج: الشعر حياة أخرى

28 يناير 2023

صدرت عن منشورات المتوسط -إيطاليا، ٢٠٢٠ مجموعة شعرية جديدة للشاعرة اللبنانية ندى الحاج، بعنوان "عابرُ الدَّهشة". وفي مجموعتها التاسعة هذه، تمنحُ الشاعرة ندى الحاج الشعراءَ أحقيَّةَ إعادة صُنعِ العالم، بعد خرابه، أو ربما بعد طوفان قادم، تُصبح على أثره الأرض زرقاء، ويعود فيه الحب، بصفته عابراً للدَّهشة وصانعاً لها: سيُعيدُ الشعراء خَلْقَ العالم، وتفرحُ الأرضُ بالزُّرقة/ ويسيرُ الحبُّ في طريقِهِ من المنبعِ وإليه/ طائراً عابِراً الدَّهشة. 

بالحروفِ، تلك الكائناتُ الصغيرة، بأرواحِها الكبيرة وقدرتها على تفكيك أسرار الكون، تكتبُ ندى الحاج، بالغموض الذي يفتح أبواباً عصيّة، في قصائد ومقولات المتصوِّفة، بما يُضيء العتمة، ويجعلُ اللَّيل ضميراً غائباً في كلامِ النَّهار، في الضمائر حين تتلبَّس ببعضها، كأجساد تستحيلُ أرواحاً شقيّة، وللجُمل حين تتقمّص معانيها أن تُمسي قصائد حيّة، نقرأ سيرورتَها على صفحات هذا الكتاب، كما نقرأ سيرورة النجوم في مجرّة أيامنا الفانيات.  تستند الشاعرة إلى جدران صلبة، لتدخل في دوامةٍ لذيذةٍ من البوح الصّافي، إذ تسبقُ قصائدَها عتباتٌ لمن سكنوا في قلبِ العاصفة، عاصفة السؤال واللغة، وحيرة الإنسان وكينونته، من شعراء يتقدّمهم طيفُ الأب في صورٍ شتّى، ومتصوِّفة وعشّاق وحيارى ودراويش ومجانين، كانت لهم ميزةُ الإصغاء لهذا الكون. جاء في إحدى العتبات، لأنسي الحاج: "لم أرَ أوضح من أحلامي"، ولنا أن نتساءل، نحنُ الذين تعجننا الآلة كلَّ يوم، كيف للرِّقة أن تكون حلماً واضحَ الملامح، شرساً في طريقه إلى التحقّق؟ 


أثَر 

هنا، من هذا الكوكب، حلَّقت روحي إليكَ

وتصاعدتْ مجرّاتها نحوكَ

هنا توالدتِ اللحظةُ بسرعةِ الوميض

لتغلِّفَ الأزلَ، وتُلملمَ الأثر

هنا، من هذه النقطةِ بالذات

اكتشفتُ قلبي، وسمعتُ الكون.


كنوز

لا أزالُ أصدّقُ أن الحبَ ساجدٌ فاتحٌ ذراعيه

لا أزالُ أسجدُ لهذا الصوتِ المانحِ صداهُ في المدى

أعبدُ إلهاً يغمرُني بالأفُق

أرتوي من نقطةٍ في الصحراء

وأشربُ من نبْعِ السماء

أُغدقُ الكنوزَ من بئريَ المفتونة

أحلمُ بالطيرانِ في حدَقاتِ الدُجى حتى منتهى البياض

على رهَفِ الكواكبِ أسير

لا أحتملُ ما يفيضُ إلا الذوبانَ في الأثير

لو تبقى لحظةٌ من عمري سأفترشُها لأَغمرَ الضياء

لو يبقى منه بريق سأسرقُهُ للحساسين

لو يبقى حبٌّ أُعطيه سأكْنزُهُ كثيفاً حتى عروقِ الأشجار

لو يبقى عمرٌ أُهديه سأذَرّيهِ لترتشفَه الصدور

لو تبقى في القلبِ نقطة هي تَهديني في الطريق.

من الكتاب، قصيدة "عابرُ الدّهشة":

كيف لنا أن نلتقي حولَ مائدةِ نارٍ وماء؟

لمعزولٍ عن وجْدهِ أن يسافرَ في سماواتِ عشقِه؟

للَمسةٍ أن تحرقَ وتَشفي؟

لدمْعٍ أن يرويَ واحاتِ أعمارٍ مديدة؟

كيف لي أن أكتبَ ولا أخدِشَ الينابيع؟

لحبّي أن يعيشَ من فُتاتِ العصافير؟

لخطواتي أن تحصيَ رملَ الطريق؟

لسلامي أن يلبسَ المطر؟

سكنتُ الغيمَ وأكثرتُ بيوتَه فلا الأرضُ أرضي 

ولا عادَ الترابُ يعرفُني

أين أنتَ في انخطافِ الثواني في كلِ خلْجةٍ مِني

في ألَقِ الشعلة وانجذابِ العناصر

في كلّيةِ الحضور وتواصلِ الأرواح

في رحابةِ الكون ونقطةِ القلب

في معموديةِ الجسد بنارِ الحب؟

أيتها الريحُ المُشِعّة

يا مَن تنفُثينَ هُداكِ

أيتها الريحُ المعجِزة

لو تدرينَ كم غلافٍ طوَينا

لو تدرينَ السرَّ الذي لفَّنا واحتَوانا

كم عميقةٌ لُجَجُه ومشتعلة

كم غريبةٌ لطائِفُه ومسكونة

لو تدرينَ كم أنَ العمرَ يبدأُ في عبَق ولا ينْختِمُ إلا به

تعالَي إلى سكينتي وارْكُني فيها!

أُحضنيني حتى أسقي الترابَ بملءِ قلبي

ذاتَ يوم سيشتدُّ العناقُ وتتحرّرُ الروح

سيعيدُ الشعراءُ خلْقَ العالَم وتفرحُ الأرضُ بالزُرقة

ويسيرُ الحبُ في طريقِه من المنبعِ وإليه

طائراً عابِراً الدّهشة.


حروف

كتبتُ حياتي من خيوطِ الشمس وأحرُفي من وهْجِ القمر

فلا نجمة هوَتْ ولا سماء إلا بنظرةٍ منك

كتبتُ الكثير وبقيَ الأكثر

حيث لا مكانَ للحبرِ الأسود والقلمِ الأزرق

حيث تنتصبُ الحروفُ أمامَ اللوحِ الأكبر

حروفٌ من ذهب يسوقُها الراعي بالنايِ إلى أعلى الجبل

ترقصُ منشِدةً ألحانَ الحبِ الأقصى

حروفٌ تُمْليها مهْجةٌ تَصفَّتْ برَيْحانِ الفجرِ الأول.


جذْب

في المنارةِ وتَد

في الوتَدِ مِشْكاة

في المِشكاةِ زيت

وفي الزيتِ نقطةٌ تصلُني بالأكوانِ الذائبةِ فيك

عرفتُ أني سأعرفُكَ

ولمْ أعرف الصدقَ إلا في المعرفة

عرفتُ أني سأُحِب

ولمْ أُحِب إلا في المعرفة

عرفتُ كلَ ما عرفتُ لأني صدَّقتُ

وفي الصدقِ تستوي المعرفةُ في الدائرة

ويستوي الحبُ في النقطة

لأني جذبتُ، وانجذَبتُ

لأني رأيتُ، وشاهدتُ

لأني اخترقتُ العوالمَ، وامتشَقتُ الصلوات

ترتدُّ إليَّ الأصداءُ ذرّاتٍ ذرّات...

منذ كان الصوتُ أصغيتُ، ومن الصمتِ ولدْتُ

أمواجُ البحرِ والزبَد، ظلالُ الزهدِ زارتْني

وبصماتُها ملحٌ على الجبينِ يكتبُ اسمي

لم أكنْ طيراً ولا أرجواناً أو سراباً

ولا أزالُ حُلْماً ينادي من بهاءِ اليقَظة.


عِرْفان 

سالَ الظلُ شاهقاً على عبَقِ النهار

ودارَ يطوفُ باحثاً عن رائيه فلمْ يرَه

إلا مستتِراً في جُبَّةِ الضوء وأكمامُه من نار

لو لففتَ الدنيا والعِباد

لن يفتنَ القلبَ إلا سِواه

ولن تَفنى إلا في ذَراه...

في القولِ وجدان

في الصمتِ عِرْفان

وفي الصلاةِ روحٌ جَلال

أنتَ حرٌّ في الانعتاق

حرٌّ في التخطّي

حرٌّ في القلب

إذ ذاك تصيرُ المطْلَقَ ويحتويك...