وليد الخطيب "بين هذا وذاك" حين يكون الشاعر جزءاً من لغة قصائده وتكون هي كلَّه

27 يناير 2023

"بين هذا وذاك" ديوان للصحافي والشاعر وليد حسين الخطيب، صدر حديثاً عن دار الفارابي – بيروت. وهو الثاني بعد ديوان "ورد وأرض" الذي صدر في العام 2000. يجمع الديوان بين دفّتيه مجموعة من القصائد، منها الحرّ ومنها الموزون على بحور عدة، الطويل والبسيط والوافر والمتقارب...

من هذا المنطلق، فإن ما يؤخذ على الخطيب أنه جمع في ديوانه "بين هذا وذاك"، بين القصيدة التقليدية والقصيدة الحديثة الحرّة، هذا من ناحية الشكل، حيث كان في استطاعته أن يجعلهما في ديوانين منفصلين، إذ إن لكل نوع منهما قرّاءه ومحبّيه. أمّا من ناحية المضمون، فقد تعدّدت الموضوعات وتشعّبت. لذا، سنحاول أن نكون موضوعيين وواقعيين في تحليلنا وألاّ نقع في فخ الانحياز حتى لا نفقد صدقيّتنا في مراجعتنا هذه. لذا، فضّلنا عدم الخوض في مراجعة نقدية شاملة للديوان، كي لا نُدين ولا نُدان، وكي نعطي هذا العمل قيمته الأدبية وقيمته الفنية والجمالية من دون أن نبخسه حقه، ومن دون رياء أو تزلّف.

إنّ قصائد الشاعر الخطيب، في معظمها، بلا عناوين ولا تواريخ، وهذا ما قد يشكّل نقطة سلبية - نرجو أن يتلافاها في أعماله اللاحقة - تُحسَب عليه؛ إذ إنّنا نعرف والكلّ يعرف أنّ عنوان أي نص هو بمثابة الرأس من الجسد، فضلاً عن أن العنوان غالباً ما يُعبّر عن المتن أيّاً كان، والتواريخ تكشف عن أزمنة القصائد ومناسباتها - باعتبار أن الأدب بشعره ونثره ابن بيئته - وإن كان كثيراً منها قصائد مناسبات تدلّ مضامينها على تاريخ كل منها، خصوصاً الموزونة في الملحق.

يحفل "بين هذا وذاك" بمشاعر كثيرة، وهذا ما أشار إليه الشاعر في مقدّمة ديوانه من تفاؤل وحبّ وفخر واعتزاز ومدح... رغم الأسى الذي يطالعنا في معظم القصائد والخيبة والضياع، ومن هذا قوله: "أمطريني عذاباً/ أنا لا أنجح بالحب سوى على الورق/ تعالي نحفر قبراً/ ندفن فيه ذكرانا أو أنا/ يُغرس في الصميم/ وانتحبي في الظلّ/ اجعلي الحب خنجراً/ سأكون وحيداً/ كما كنت معك...". واللافت في أسلوب الخطيب، هو أنّ في بعض القصائد قد يظنّ القارئ أنها قصائد حبّ وغزل ومشاعر جيّاشة تجاه امرأة بعينها، إلا أن الأمر لا يكون كذلك إطلاقاً، وهذا ما قد نراه في القصيدة ص 28، التي يظهر فيها أنه يخاطب أنثى، بينما هو في الحقيقة يخاطب الدنيا، حيث العمر فيها يسير إلى النهاية المحتومة، وما يدل على ذلك هو العبارة التي ذيّل بها قصيدته "21 أيلول الرابع والأربعين"، وهذا التاريخ، إن دلّ، فإنه يدل على عمره حين كتبها. أما الحنين الذي ورد في القصيدة، فواضح أنّه للطفولة، لعمر الشباب، للحياة الجميلة، حيث الحياة تكون من دون مسؤوليات، رغم أنه كان وحيداً فيها، فقوله "أصبح وهجاً قديماً يجيء من عمق الحكايا"، يدلّ على التقدّم في العمر والشيخوخة، وقوله "تُثقل لغة الحنين مشاعري/ فأنا الآن طريد"، يحيلنا على العبارة السابقة، فالسنون تطارده والعمر أصبح في منتصفه "والطوف يسير حتى يتعثّر". ومثل هذه القصيدة، القصيدة التي تليها ص 30. ومن هذا أيضاً، نستنبط الكثير من المعاني التي تدور في هذا الفلك. فمحتوى الديوان ليس الحب والغزل والعشق... وحسب، وإن كان يزخر بالكثير منها، كما هو واضح ظاهريّاً، إنما هو صراع بين الماضي والحاضر والمستقبل. بين الشباب والكهولة والشيخوخة.

وعَوداً على بدء، لعل من الغريب جمع الشاعر قصائد تقليدية ذات شطرين وقصائد حديثة متحرّرة من الوزن والقافية والرويّ، ومعتمدة على الموسيقى الخارجية والصور والتعابير المجازية، إلا أنّه أمر جدير بالاحترام والتقدير، بسبب جرأته على فعل ذلك، حيث اختلفت في الشكل واللغة والبناء الشعري إلّا أنها تساوت في التعبير عن موضوعات مختلفة، فجاء هذا التشكيل كباقة ورد متنوعة، تُعجب النّظّار إليها ويتضوع عطرها لدى كل من يتذوّق الكلمة. ولعل هذا الديوان الذي بين أيدينا يهدف إلى التعبير عن أمور عدّة ومواقف مختلفة في الواقع المعيش، الأمر الذي جعله بعيداً من أن يكون وحدة مترابطة ومتناسقة ذات فكرة واحدة تُشعر القارئ بالملل والسأم. وفي نظرة متأنّية إلى القصائد في هذا الديوان، نرى تنوّع الموضوعات التي تحمل في طيّاتها تفاؤلاً وتشاؤماً وحبّاً وغزلاً وتأمّلاً في العمر والحياة ومدحاً ورثاء ووطنيات وحبّاً للأبناء وللأم وسخرية وفخراً وحماسة ولوعةً... من هنا، نستطيع القول إن وليد الخطيب ضمّن ديوانه أفكاراً فلسفيّة من دون تعمّق في الإيضاح والتطويل كالفلسفة، ولا استغراق في الاختصار والقصر كما في الخواطر.

لا شك في أن المخزون الثقافي والمخزون الفكري للخطيب، ساهما في شكل كبير في نضوج العبارة الشعرية لديه والاستغراق في التأمّل واستخدام الفكرة الفلسفية لإيصال المعنى الذي يريد، وهذا ما نلاحظه بين ديوانه الأول "ورد وأرض" في العام 2000، وديوانه "بين هذا وذاك"، هذه العبارة التي تماهت في ذهنه، حيث كانت تكبُر وتتفاعل في فكره ومخيّلته مع سنيّ عمره الخمسين. فانطلق يسمو بمخزونَيه الثقافي والفكري وقصائده ليصل بها وتصل به إلى أبعد من حدود الذات الإنسانية.

إنّ ما يميز كتابة الشاعر وليد حسين الخطيب في هذا الديوان هو مقدرته الواضحة على مزج واقعية الكلمات والمعاني برمزية اللغة الشعرية المتخيّلة، ومع هذا وذاك، استخدم الشاعر الكلمات والتعابير المألوفة - إلا ما ندر - لدى السواد الأعظم من الناس في كل قصائده، كي لا يرهق القارئ والسامع في البحث عن معاني المفردات والعبارات في المعاجم. وهذا ما جعل كتابته الإبداعية تتّخذ منحىً جديداً في التجربة الشعرية.

"بعد هذا وذاك"، نستطيع القول إن الخطيب اندمج في لغة قصائده، فأصبح جزءاً منها، وأصبحت هي كلَّه!