مهندس الديكور الأميركي رايمان بوزر... ملاذ هادئ في حي نيويوركي صاخب

باريس - نجاة شحادة 10 نوفمبر 2023

في هذا المنزل، لا يختصر مهندس الديكور الأميركي رايمان بوزر أسلوبه بقدر ما يقدّم نموذجاً من عمل يؤكد طواعية المكان الزخرفية والتي تتناسب مع موقعه في أحد أحياء مدينة نيويورك الصاخبة. وهكذا استطاع بوزر أن يحوّل المنزل الذي تبلغ مساحته 372 متراً مربعاً الى واحة توفّر الهدوء والصفاء والتأمّل.


بالطبع، لا يمكن اختبار هذه المشاعر في فضاء هذا المنزل من دون رصد شروط الأسلوب نفسه، ذلك أن العناصر الأساسية التي تشكّل القاعدة الصلبة في العملية الزخرفية، تكمن في معرفة العدد الوافر للتفاصيل التي تجعل المكان يشبه صاحبه. وهذا ما يحدّد بالضبط ملامح أسلوب بوزر في توفير الرفاهية والأناقة من دون إهمال أيٍّ من شروط الوظيفة. وتتجلّى المفردات الزخرفية هنا، في الدقة باستخدامها وتنسيقها من أجل الوصول الى مشهد يحقق المنتظر.

في الواقع، إن ما يثير الإعجاب هنا هو ليس الخيارات الرئيسية أو التفاصيل، وإنما القدرة على خلق فضاءات تدعم فكرة الانتقال بينها، هذا الانتقال الذي يشبه السفر من مكان الى آخر، بينما السقف واحد. فالانتقال مثلاً بخطوات معدودة بين صالونَي المنزل يشبه فعلاً السفر بين مكانين ليس بينهما من رابط «شكلي»، ولكن يجمعهما الإحساس المتنامي بمشترك غامض لا يمكن تفسيره بغير البراعة والقدرة على مخاطبة الأمكنة وتطويعها إذا جاز التعبير. والمسألة لا تتحدّد في مدى اختلاف العناصر التي تم اختيارها بين الصالتين، بل يمتد الأمر الى الألوان والطراز والأحجام والتفاصيل التي تشي بتمكّن رايمان بوزر من توليد المشاعر المطلوبة لتحقيق عزلة الداخل الهادئ عن الخارج الصاخب.


في الصالة الأولى، يبرز النقاء اللوني بدءاً من المدفأة الرخامية البيضاء مروراً بعناصر الجلوس البسيطة والأنيقة والتي تتوسطها طاولة منخفضة رخامية، وعلى الجدارين المتقابلين استخدم بوزر مرايا كبيرة متقابلة تمنح شعوراً باتساع المكان، وفي الصالة القليل من الأكسسوارات بلون ذهبي يحاكي أطر المرايا على الجدران. ويبقى العنصر الأبرز في حضوره الطاغي هنا، هو البيانو الأسود كضيف دائم يستدعي الإنصات. وجاء اختيار لون الأبواب وحاجز السلَّم الخشبي المؤدي الى الدور العلوي متوافقاً مع لون البيانو، مما أضفى لمسة رصانة واتزان على جو الصالة. أما الصالة الثانية في المنزل فتؤكد خيارات عناصرها الرغبة في الانتقال من مكان الى آخر، لإشباع الرغبة في التنوع والمفارقة، حيث يقترب الطراز هنا من «الأثني» المطعّم بألوان جريئة وأحجام قطع أثاث كبيرة لجلسات قراءة طويلة تتطلب الراحة والحميمية. واختير الرمادي للجدران كلونٍ حيادي يساهم في إبراز الألوان المختارة للستائر والأكسسوارات مروراً بالبساط اللافت وصولاً الى المقاعد المخملية والطاولة المنخفضة بلونها المميز الجميل.

المساحات الأخرى من المنزل لا تختلف في سلوكها الجمالي عن صالتَي الاستقبال والجلوس، من حيث الألوان والأشكال ولنقل الطُرز أيضاً، فلكلٍ من غرف النوم شخصيتها الزخرفية المميزة، بينها الغرفة الأولى التي تحاكي صالة البيانو في هدوئها ورصانتها من حيث الألوان وخيارات الأثاث والبياضات، وغرفة أخرى تحاكي صالة الجلوس بطابعها «الأثني» الغريب بألوانه اللافتة والمثيرة للاهتمام، والغرفة الثالثة تقف بين الأولى والثانية حيث تم تنسيقها بأسلوب هو مزيج من التقليدي الباحث عن الراحة التامة والمعاصر حيث إن ورق الجدران هو «البطل» في مشهديتها.


وهذا التنوع المتناغم وبالغ الانسجام ينسحب على باقي المساحات التي يتشكّل منها المنزل، حيث صالات الحمّام تحاكي كل واحدة منها غرفة النوم المتصلة بها، وتتنوع موادها بين الرخام الأبيض والخشب الأسود مع ورق جدران يرخي بغرابته وجماله على الجو فيمنحه حميمية موصوفة.

أما صالة الطعام فجاءت في منتهى البساطة ولكنها بساطة عصية على الوصف. طاولة بيضوية الشكل بيضاء اللون تذكّر بمقتنيات ستينيات القرن الماضي من تصميم جوليان شيشيستر، بينما الكراسي الخشب التي تحيط بها من «أثنيكرافت» فهي بمنتهى الأناقة بلونها الأسود، مما يحيلنا الى بعض الرصانة اللونية والتي «تضخّم» حضورها تلك اللوحة الحديثة الكبيرة المعلّقة على الجدار قربها، وهي من أعمال الفنانة إيرين مايي.


وفي صالة الطعام نقترب من المطبخ الذي يبدو أنه يتفوّق على كل مساحات المنزل وأركانه برصانته ووضوح خطوطه وتميّز أثاثه وفرادة ألوانه، وهو ما يشكّل إضافة جمالية مؤكّدة. «الجزيرة» الأنيقة التي تتوسطه يعلوها رخام «كلكوتا» وأمامها ثلاثة مقاعد حرّة من «وورد أواي»، بينما عنصر الإضاءة اللافت فوقها من «ريجوفنيشن»، أما الطلاء الأسود «حلم منتصف الليل» البديع فهو من إنجاز بنجامين مور.

ومن اللافت أيضاً في المنزل، اهتمام رايمان بوزر البالغ بالأعمال الفنية من لوحات وصور فوتوغرافية، ليس في هذا المنزل وحسب، وإنما في مجمل مشاريعه الزخرفية، حيث يحجز لهذه الأعمال الأمكنة المناسبة والتي تليق بها كإبداعات بشرية فريدة.


كذلك لا بد من التوقف أمام «الترّاس» الذي يميز هذا المنزل ويوفر فضاءً آخر يشكّل قيمة مضافة، جمالية ووظيفية، حيث يمكن قضاء الأوقات الممتعة برفقة الأهل والأصدقاء وتناول وجبة لذيذة على طاولة مضيافة وكراسٍ سخية من تصميم ويليامز سونوما بين زهور ونباتات غضّة، تعتني بها وتنسّقها «فلورال سوسيتي».

النتيجة الاستثنائية في هذا المنزل هي ليست الوحيدة التي يتحصل عليها المشهد الزخرفي العام، وإنما يبرز مثل هذه النتائج في معظم المشاريع التي ينفّذها مكتب «بوزر»، والذي عمّده باسم «شقة 48» في نيويورك.