black file

تحميل المجلة الاكترونية عدد 1090

بحث

«دون بابلو» في غرفته الزجاجية

ابتسم علي لحذاء مضيء وعلب ألوان وسيارات صغيرة حول سيارة سوداء ضخمة وأوراق ملطّخة بالألوان هي لوحات «دون بابلو» في غرفته الزجاجية. أصبح «دون بابلو» الجديد في الخامسة. ويدور بين أشيائه المنثورة على أرض غرفته الزجاجية حوار صامت، ويسيطر الهدوء على المكان.

نام بيكاسو الصغير، نام متحمساً لشمس الغد التي يصحو قبلها دوماً.

قبل أن ينام قال لـ«عمو علي»: أصبح عمري خمس سنوات؟

- نعم، خمس سنوات.

-أستطيع الآن أن أختار حقيبة المدرسة بنفسي وأن أرسم لوحة «السيدة المنتحبة» لبيكاسو وحدي، وأن أحمل معي محفظة صغيرة فيها صور أمي وأبي وأختي.

لا يصدّق علي أن صديقه سامر أصبح أباً مسؤولاً عن عائلة. ولم يفكر علي في أنه تأخر على أن يكون أباً. ورغم شغفه بإيما الأميركية إلا أن تفكيره لم يذهب إلى هناك، إلى المسؤولية التي تخيفه وتذكره بأنه لم يعد مراهقاً أو بأنه مراهق أربعيني.

أصبح سامر في الثانية والأربعين ولم يجمع «المليون دولار» التي قال لعلي أيام الجامعة في بيروت أنه سيجمعها قبل أن يصبح في الأربعين. بدت الأربعين بعيدة. تخيّلها خلف الشمس، خلف الجبال والوديان أو في حياة أخرى جميلة تتبع حياة الشقاء. لكن سامر حقّق إنجازاً عبر استمراره في الوظيفة نفسها خلال الأعوام الخمسة الأخيرة. منذ ولد ابنه كريم أصبح عالم سامر أكثر تماسكاً وثباتاً.

علي الذي لا يعرف التعامل مع الأولاد تعلّق بكريم وأحس بأن الوقت معه لا يضيع سدى. أراد أن يعلّمه كرة القدم وأن يتمشيا معاً على الكورنيش البحري. اكتشف علي متعة التحدّث مع الأطفال وجمال الصدق في كلامهم وقدرتهم المذهلة على الابتكار. تعرّف إلى نقاء العقل الجديد وقدرته على التقاط الإشارات من حوله.

وخلال جلسته المسائية اليومية مع أمه حين يقرأ لها القصص ويطلعها على صور العائلة في الألبومات القديمة، أخبر علي أمه عن كريم ابن سامر. كانت صاحية من غيبوبتها اليومية. فتحت عينيها. نظر علي طويلاً إلى عينيّ أمه. وضع كفّه في كفها، وأخبرها عن اليوم الذي أمضاه في بيروت مع صديقه سامر وابنه كريم. ذكّرها بما كان يقوله سامر عن أكلاتها والفرق بينها وبين ما تطبخه أمه. «أحسدك يا علي» كان يقول.

سامر أيضاً لم تغره ألعاب الحرب. كان يهرب إلى السينما، إلى صالات لم تتحوّل إلى مخابئ سرّية لعناصر الميليشيات وأوكار للمؤمرات الدموية. وكان يعشق دور المصوّر والمعلّق على الصور، ويستأجر أفلام الفيديو تحت القصف، بالرغم من أنه يعرف أنه سيمضي ليلة معتمة لأن غياب الكهرباء كان جزءاً من دراما الحرب.

سبق سامر علي في هروبه إلى أميركا، لكنه عاد ما إن سُنحت له فرصة العيش في بيروت. ورغم يأسه المستمرّ من تفاصيل العيش في بلده منذ انتهت الحرب إلى الآن، لكنه يفضّل البقاء في بيروت والمعاناة فيها. «لكنها معاناة غبية وبلا هدف أو معنى»، يقول علي ثم يضيف: «أنا ما زلت حراً مسؤولاً عن نفسي فقط. ليس عليّ أن أساوم أو أن أقنع نفسي بأنني سعيد حيث تسحب مني أبسط حقوقي كمواطن. كي تختار بين الهنا والهناك، يجب أن يكون الاختيار نهائياً قاطعاً بلا «نوستالجيا» وأفكار مسبقة وتخيّلات، هي حياة واحدة ويجب أن نعيشها».

المجلة الالكترونية

العدد 1090  |  تشرين الأول 2025

المجلة الالكترونية العدد 1090