black file

تحميل المجلة الاكترونية عدد 1091

بحث

الأسباب غامضة

الأمور واضحة بالنسبة إليّ، تأخرتُ في كل شيء. تأخرت في المراهقة وفي الحب، وفي اكتشاف أنني أكبّر الأمور وأضخّمها حتى يضيق قلبي. اخترت أن أبقى تلميذاً. عشتُ حياة التلاميذ خلال خمسة عشر عاماً ثم درّست في الجامعة التي أصبحت امتداداً لي وأصبحت جزءاً منها، أحرس كتبها ووجوهاً جميلة في مكتباتها تبحث بين الحروف عن حيوات جديدة.

هربت من الواقع إلى الكتب، من وظائف ابتلعت أصدقائي إلى أوهام صلبة وأفكار حرّة داخل جدران جامعة في نيويورك حيث تناسيت صوت الرصاص وألحان المعارك القديمة.

تأخرت في التخطيط قبل أن أتأخر في التنفيذ. لم أسعَ إلى أن تكون لي عائلة، لم أود أن أكون مسؤولاً عن أولاد. لا تسمح لي أنانيتي بأن أفكر في أن أنقل انشغالي بنفسي إلى انشغال بأشخاص صغار عواجز.

ماذا لو كنت أنام على صوت مرسيل خليفة؟ كل هذا تغيّر الآن، أنظر إلى عينيكِ. لاأرى بحرَ بيروت أو البيوت الممزقة في جبل لبنان، لا أرى الماضي المخيف الذي أرسلني إليكِ. «لستُ شهيداً يا مرسيل»، كتبتُ قبل أن أطير في دفتر لم أرمه منذ عشرين عاماً. «ولن أقبل بالشهادة الآن على الأقل»، كتبتُ، وكنت حينها في العشرين. أفضّل الأربعين على العشرين، فهل تصدقينني يا حبيبتي؟

ما زلت أعتبر أنني تصرّفت بذكاء حين هربت من بيروت، فلم أود أن أغيب في عتمة انقطاع التيار الكهربائي أو في هوة مصعد غدار. أردت أن أقرأ، أن أمارس الرياضة وأهتمّ بعضلاتي وأحب فتاة طويلة القامة متى شئت. ما زلت لا أخجل من توقي إلى أن أشمّ الياسمين، لا أخجل من الأنوثة فيّ، من رغبتي في أن يكون شعري أكثر كثافة كي تلاحظني الفتيات. القراءة بيتي، الكتب أمكنتي التي أتنقّل بينها. تغيّرتُ ولا أنتظر منك أن تفهميني وأن تقرأي مثلي عن المجازر وأن تعدّي الأموات في الأزقة البيروتية وفي كل قرية من القرى اللبنانية، وعلى كل باب قبل أن يتسنى لهم الهروب، قبل أن يصبحوا أمواتاً، وقبل أن يصبحوا شعراء.

وصلت إلى منزل أمي صباحاً. تعرف أمي أنني أحب ساعات النهار الأولى. تعرف أنني أحببت الجنوب وأحب رائحة القهوة وموسيقى الأصوات قبل أن تتنافر نغماتها. أمي تبتسم في نومها، تحاول أن تتذكرني بابتسامة. أمي تعرف رائحتي، ولا يمكن أن تنساها، لكن مقاومة النسيان ليست سهلة والأدوية لا تفيد. قلت لها: «أمي، قهروا البيوت التي أحببناها».

رأيت حجر اً يتدلّى من حجر، الحجارة تموت أيضاً. الحجارة مثل العظام تتفتت وتختفي مع التراب. قلبي حجر الآن، لكنني سعيد ومرتاح لعودتي. أستطيع أن أفتح الباب الآن وألصق حقيبتي بظهري وأمشي. الطرق لي والأزقة لي، وأشجار الزيتون في البستان «التحتي» لي. أنا لي، أنا لست لامرأة أميركية أحببتُها وتركتني لأسباب غامضة.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1091  |  تشرين الثاني 2025

المجلة الالكترونية العدد 1091