black file

تحميل المجلة الاكترونية عدد 1091

بحث

قهوة بالحليب

في الطريق إلى الجامعة حيث أشرب قهوتي وأتفرّج على التلاميذ، ألتقي كلّ يوم بائع الخضار الذي يفتح شهيتي إلى التدخين. لكنني لا أدخن منذ منعوا التدخين في الكلية في نيويورك حيث أدرّس تاريخ الفن. يغمض بائع الخُضَر عينيه حين تصبح السيجارة بين شفتيه. أحدّق إلى شعره المصبوغ وبنطلونه الأخضر. أما هو فلا يراني، فالسيجارة بين شفتيه وعيناه مغمضتان. تختفي خُضره وأختفي أنا، ويختفي صديقه العجوز صاحب المصبغة. أمشي على الرصيف نفسه كل يوم. أقلّب اكتشافاتي في رأسي. أحاول أن أحلّل العلاقة بين بائع الخُضر وصاحب المصبغة. لا يتكلّمان، لكنهما يقفان جنباً إلى جنب. وينظر صاحب المصبغة بإعجاب إلى الخُضَر في العربة التي يضغط بيديه على مسكتها الحديد. يرشّ الخُضر بالماء، يقلّبها ويغيّر أمكنتها، الباذنجان محل الكوسى والبندورة مكان الخسّ، لا يتكلّم مع صاحب العربة، ولا يلتفت إلى المصبغة القديمة المزيّنة واجهتها بأكياس لمتاجر أقفلت ربما قبل انتهاء الحرب الأهلية في لبنان. أفكر أحياناً في أن أقدّم لهما فنجاني قهوة بالحليب ثم أنسى. كلّما رأيتهما تذكرت القهوة بالحليب.
لم أعرف هذا الشارع خلال طفولتي. عرفته حين وصلت إلى الجامعة الأميركية في بيروت. وهنا أمضي الآن صباحاتي.
«صباح الخير» قالت الصبية في محلّ الخياطة المجاور للمصبغة.
«صباح الخير».
«أتعمل في مكان قريب، في صالون خليل أم في المكتبة»؟
«لا، لا أعمل هنا».
«ولمَ أرك هنا كل صباح؟»
«لأنني فقدت صديقي هنا. خلال الحرب كنا نمشي هنا، حاولنا أن نهرب من الأصوات، أن نختبئ، في هذه البناية، أترينها؟» وأشرت بإصبعي إلى إحدى البنايات ثم أكملت: «لم أستطع أن أساعده، سريعاً انتهى كل شيء، أتفهمين؟».
رأيت دموعها. لا أدري لمَ أخبرتها تلك القصة. لم تكن قصتي، لكنها قصة أحد أصدقائي أيام الجامعة، قصة سامر عطوي. كان مع صديقه في هذا الشارع حين اندلعت فجأة إحدى المعارك بين شبان الحيّ المنتمين إلى أحزاب متصارعة. لم أعش قصصاً من هذا النوع، لم تخترق شظية قدمي كما حصل مع زينة صديقة أختي. لم يمت لي قريب في الحرب، لكنني أحسست بالوجع وتذرعت بالحرب لأترك أهلي. كنت وما زلت أنانياً وغير قادر على تحمّل المسؤولية.
ودّعت الفتاة في محل الخياطة. لم ترد، لكنها صدّقتني.
أكملت طريقي إلى خليل الحلاق. عرفني. لم أره منذ عشرين عاماً، لكنه عرفني.
«ما زلتَ خجولاً»، قال خليل، «لكنك ازددت وسامة. ماذا فعلت؟ لا تقل لي إنك تزوجت».
«لا لم أتزوج».
«لن نتزوج» قالت إيما يوم تركتني. «لن نتزوج، لا تخف». ولم أكن خائفاً، لكن ذلك الإحساس اللئيم بالذنب خنقني. تركتُ امرأة نمَوْتُ في بطنها خلال تسعة أشهر وهربت إلى حياة أخرى، إلى حياة لم تكن جديدة تماماً من الداخل، لكنها من الخارج كانت لإنسان آخر، إنسان ليس أنا.
كان عليّ أن أعود لأجل أمي. أستمع إلى خليل وأهزّ برأسي حين أستطيع ذلك. لم يتغيّر شيء في جوّ الشارع، ما زال بائع الخضار يقف بالقرب من المقهى الذي يرتاده الأجانب. ما زلت أستمتع بأخبار خليل الذي ابيضّ شعره وقصرت قامته وشحّ نظره. لكنه عرفني وقال إنني لم أتغيّر

أخبرت الغريبة قصة لم تكن قصّتي. استعرتها من ماضٍ قريب ومنحت نفسي بطولتها فصدّقتني

المجلة الالكترونية

العدد 1091  |  تشرين الثاني 2025

المجلة الالكترونية العدد 1091