في احتفالية جان جينيه بعيون عربية

فيلم قصير, المهرجان القومي للمسرح المصري, بيروت عاصمة عالمية للكتاب, القضية الفلسطينية, المخرج العراقي جواد الأسدي, ندى ابو فرحات, رواية / قصة, مهرجان جان جينيه بعيون عربية, معارض رسم, كارول عبّود, رينيه الديك, المسرح اللبناني, مهرجان المسرح العربي,

19 نوفمبر 2009

في سياق «بيروت عاصمة عالمية للكتاب» يُقيم مسرح بابل مهرجان «جان جينيه بعيون عربية». تُحيط هذه الإحتفالية بالكاتب الفرنسي جان جينيه من كلّ جوانب شخصيته وحياته وأدبه: معارض رسم، روايات، أفلام، طاولة مستديرة لمناقشة يومياته وتفاصيل حياته وعلاقته بالمقاومة الفلسطينية ونضاله ضدّ التمييز العنصري.

ويبدو أنّ المخرج العراقي جواد الأسدي الذي وصف جينيه بأنّه «أباً باراً للأرواح التائهة» قد أراد من خلال هذا المهرجان الذي يُقدّمه مسرح بابل لغاية ٢٠ تشرين الثاني/ نوفمبر أن يُعطي الجمهور العربي فرصة التعرّف على كاتب يُشبههم رغم أنّه لم يولد بينهم ولم ينطق لغتهم يوماً إلاّ أنّه كرّس حبره لكلّ مقهور في الأرض من الفلسطينيين والزنوج والعمّال والخدم. كما ارتأى عاشق جينيه- جواد الأسدي- إعادة عرض مسرحية «الخادمتان» التي سبق أن قدّمها على «مسرح بيروت» عام ١٩٩٥.

وكان اختيار الأسدي لهذا الكاتب المعروف بمواقفه الإنسانية الكبيرة وانحيازه للطبقة المقهورة والمظلومة موفّقاً ضمن زحمة العروض المسرحية والثقافية خلال هذا العام. في «الخادمتان» يغوص جينيه في متاهات العالم السفلي حتى يصل إلى الحضيض، فوضع الكاتب الذي اتخّذ «من الهامش وطناً له» الشخصيات المهمّشة في الواجهة.

الخادمتان «صولانج وكلير» هما البطلتان المطلقتان في المسرحية. هما تحلمان بقتل السيّدة التي تستعبدهم منذ ٣٠ عاماً داخل قصرها. منعزلتان تماماً عن العالم الخارجي الذي لا تعرفان منه سوى صوت القطار المزعج والحلاّب «ماريو» اللتان تتواصلان معه. في «الخادمتان»، التي كتبها جينيه كبيان صريح ومباشر ضدّ السادة، تصوير لعالمين متباعدين ومتناقضين لا يُمكن أن يجتمعا سوى في الحلم، لذا تعمد الأختان «كلير وصولانج» يومياً إلى تقليد «السيّدة»، فتقوم كلير (ندى أبو فرحات) بتقمّص دور «المدام» المترفة والمتسلّطة بينما تلعب «صولانج» (كارول عبّود) دور أختها كلير الخادمة المُستعبدة.

في هذه اللعبة المعقّدة تبرز شخصيتا صولانج وكلير المعقدّتين واللتين تجمعهما علاقة غريبة تحضر فيها مشاعر الحب والكراهية والخوف والجبن والشبق والغيرة والإنتقام، فكلاهما تتنابذان بالشتائم والألفاظ البذيئة وكأنّها الطريقة الوحيدة للتنفيس عن الضغط النفسي لسجينتين لا تفقهان معنى العيش فوق الأرض. وعرف المخرج كيف يُخرج السجن من معناه الضيّق ليُصبح شعوراً حقيقياً يتولّد لدى الشخصية والمشاهد على حدّ سواء. فالمسرحية ليست مجرّد تعرية لحقيقة تلك العلاقة الأزلية «السيّد- العبد»، بل إنّها تحمل أيضاً شرحاً لعلاقة «الحريّة- السجن»، وقد تكون هذه هي إضافة المخرج الذي يعمل في كلّ قراءة جديدة لمسرحية «الخادمتان» التي يُقدّمها للمرّة الرابعة في مسيرته والثانية في لبنان على تأكيد فعل الحريّة وبالتحديد حريّة الخدم الروحية التي تدوسها السيّدة. وهذا ما يتجلّى في المشهد الأخير من المسرحية أي عندما تعجز الشقيقتان عن قتل السيّدة، فتطلب كلير من أختها أن تعطيها الكأس المسموم لتشربه، فتسكب السمّ في فمها وتنام إلى الأبد. وهي بذلك لا تقتل نفسها لتريحها، بل لتقتل روح السيّدة التي تسكنها أو بمعنى آخر لقتل فكرة العبوديّة في داخلها.

وبالرغم من أنّ المسرحية فقيرة في الديكور وعدد الشخصيات إلاّ أنّها عالية من حيث المضمون والتكنيك المسرحي، وهذه هي نقطة القوّة في أعمال المخرج العراقي جواد الأسدي. فهو من أكثر المخرجين المسرحيين الذين يتحرّرون من النصّ الأصلي ويشتغلون على الفانتازيا، فمع أنّ المسرحية مأخوذة من واقع فعلي مُعاش إلاّ أنّ روح المخرج التوّاقة للفانتازيا وعمله الدقيق على تفاصيل الإضاءة والموسيقى وحركات الممثلين الجسدية منحت المسرحية شيئاً من الخيال والمناخ الغرائبي الذي يتقنه الأسدي أكثر من غيره.

ولا بدّ من الوقوف أيضاً عند اختيار الممثلتين كارول عبود وندى أبو فرحات اللتين أديتا دور «الخادمتين» بحرفيّة عالية بعدما كانت جوليا قصّار ورندا الأسمر قد لعبتا نفس الدور عام ١٩٩٥. ولا شكّ في أنّ الوقوف على الخشبة تحت إدارة جواد الأسدي يُظهر الممثّل في أعلى مستوياته لأنّه يستنفذ قدرات الممثلين بذكاء ويُدرك جيداً كيف يُخرجهم من ذاتهم ليتماهوا كلياً في حيثيات الشخصية. وهذا الجهد أو الطاقة التي يبذلها الممثل على خشبة الأسدي تبدو واضحة بالنسبة إلى الجمهور الحاضر الذي يتفاعل هو بدوره في العمل.
أمّا «السيّدة» التي لعبتها رينيه الديك وبهرت الجمهور بأدائها وشكلها عندما ظهرت صلعاء من أجل تنفيذ الدور على أكمل وجه فلم تُستبدل بأي ممثّلة أخرى، وارتأى المخرج أن تكون «السيّدة» بمثابة الشخصية الغائبة- الحاضرة في المسرحية عوضاً عن استبدالها بممثلّة أقلّ مستوى من رينيه الديك. وهكذا كانت «الخادمتان» تحيّة إلى جان جنيه ككاتب وإلى رينيه الديك كمبدعة حاضرة دائماً في ذاكرة المسرح اللبناني والعربي.