وحدة عبّاس بيضون

هالة كوثراني, عباس بيضون

04 أغسطس 2010

كان المفكّر والشاعر والروائي عبّاس بيضون «يختبر وحدته» حين تعرّض للحادث. هو الذي يعتبر المشي «تجربة مخيفة لاختبار الوحدة واختبار الجسم». يمشي هذا الجسم ليطيل عمره. يمشي ليحقّق هدفاً محدّداً وإن كان لا يمشي إلى هدف محدّد. بعد عملية القلب المفتوح التي خضع لها، أصبح المشي جزءاً من يوم عبّاس. «يمشي ليطيل عمره ويطيل عمره ليمشي».

عبّاس بيضون الذي «يعيش علاقة سيئة مع الأمكنة» هو جزء من نبض المدينة. يجلس في مقاهيها ويكتبها ويعيش في ضجيجها وحدته، كما يعيشها في فوضاه.

المشي اختبار للوحدة، والكتابة أيضاً اختبار للوحدة. يعرف عباس بيضون أن يكون وحيداً. يكتب قصائده صباحاً في سريره «بكثير من التأنّي والصعوبة». يختبر وحدته وهو يكتب القصيدة أو الرواية أو النص النقدي. أما عمل الجريدة اليومي، ففي المكتب بين زملائه.

الكتابة اختبار للوحدة. والشاعر الذي يصنع شعره في وحدته، يصنع أيضاً وحدته في الكتابة. كما يصنع في الكتابة أفكاره ومواقفه ووجعه وفرادته. ويكتب عن نفسه‮ «لأنها المكان الذي‮ ‬يرى فيه العالم‮،‮ ‬المكان الذي‮ ‬يتقاطع فيه العالم ويعبر فيه»‮.

يتكلّم عبّاس وحده حين تحاوره. يبدو أنه وحده قد فهم موضوع الحوار من زواياه كلّها وأبعاده وأعماقه. يعطيك نظرة «بانورامية»، عميقة وجانبية، «من فوق ومن تحت». يدهشك تسلسل أفكاره وبراعته في وضع كلّ فكرة في مكانها. يعمّر بالكلمات بناء متيناً. يبني فكرته ويبني نفسه، ويدهشك في النهاية اكتمال هذا البناء. ورغم متعة متابعة أفكاره إلا أنه ليس سهلاً الوصول معه إلى النقطة الأخيرة، إلى خاتمة الجواب. يمكن التأخر في فهم ما رمى إليه. كما ليست سهلة قراءة شعره حيث تجرّ الكلمات بعضها ويتفتّح الألم ببطء، تتفتح الجروح ببطء أيضاً. 

أجمل ما في عباس بيضون تواضعه. حين تعرّفت إليه، كنت في بداية حياتي المهنية، وقد منحني ساعات من وقته لمساعدتي في بحث أكاديمي. أعطاني نصائح وكتباً وأرقام هواتف شاعرات ضمّ بحثي قصائدهن. ثم قبِل لاحقاً أن يكون القارئ الأول لروايتي الأولى قبل أن أرسلها إلى دار النشر.

كتب عباس بيضون شعره بجسمه، كتب عن جسمه وأوجاعه الداخلية والخارجية، النفسية والعضوية. ننتظر أن يكتب عن الالتصاق بسرير أبيض في وحدة أخرى ليس الألم رفيقاً فيها. الألم هو الجسم والقصيدة. جسم عباس أصبح هو القصيدة.