'لها' في زيارة خاصة لمنزل 'غوته'

ثقافة, كريستال, محمد المنصور, معرض فني تشكيلي, الحديقة السرية , مركز المشاعر الإنسانية, كاتبة, كتب, حميد القصري, تحفة فنية, مواهب فنية, ألمانيا1, شعراء, متحف ميتروبوليتان النيويوركي, لوحة / لوحات فنية, منزل لبناني, مكتبتي, أستاذة الأدب الألماني كاتري

11 يناير 2011

«لا شكّ أنّك طالبة وتودّين دخول المتحف من أجل بحثك الجامعي، أليس كذلك؟»... بهذا السؤال لاقاني المسؤول عن متحف ومنزل غوته الذي تبيّن لي من خلال كلامه أنّ هذا المكان يقصده الذوّاقة والنخب الثقافية من فئة عمرية معينة، أمّا الشباب فيأتون بدفع من جامعاتهم أو بتنظيم تتولاّه مدارسهم. إلاّ أنني أجبته وأنا أنظر إلى البناء الشاهق بدهشة وإعجاب كبيرين أنني هنا في زيارة عمل  ولن أغفر لنفسي لو عدت إلى وطني دون أن أزور الصرح الثقافي الأشهر في ألمانيا لابن فرانكفورت الأشهر في العالم «غوته».

بحماسة كبيرة كنت أنظر إلى ذاك المبنى العظيم الذي يعكس عظمة صاحبه... أخذت بطاقة الدخول وانطلقت في المغامرة التي كُتب لي أن أعيشها وأن تعيش بدورها دوماً في ذاكرتي المتخمة بشخصيات سكنتني وكان من أبرزها «فارتر»، بطل يوهان فولفغانغ غوته الأثير.

«الصمت في حرم الجمال جمال»... هذا ما شعرت به وأنا أعبر الحديقة المغطاة بالثلوج لأدخل الباب الكبير في الطابق السفلي من القصر الواقع على ضفاف نهر «الماين». الجمال في هذا المكان يُحيط بك من كلّ حدب وصوب، فتحتار بين أن تبقى في مكانك تتأمل المناظر الطبيعية الخلابة التي تُحاصر تلك الحديقة الرائعة، أو أن تُسارع إلى دخول المنزل الذي وصفه غوته في إحدى مخطوطاته ب«منزلي المشرق والبهيج» لاكتشاف كل زاوية وقف فيها الكاتب وكلّ رواق مرّ به وكلّ غرفة كتب فيها وأبدع.
في هذه اللحظة تذكرت مقولة غوته: «أيّ شيء يمكنك القيام به أو تحلم بالقيام به فابدأ به». عندها لم أتردّد في الولوج إلى الباحة الداخلية للقصر الذي يتوافد إليه سنوياً أكثر من مئة ألف زائر. يُزين الطابق السفلي تمثال حجري ليوهان غوته، وعلى يمينه غرفة الطعام وفيها طاولة مُحاطة بكراسٍ خشبية ضخمة يطغى عليها اللون الأزرق bleu mourant الذي كان يُعدّ اللون الأكثر رواجاً خلال تلك الحقبة. وفي وسط الغرفة تلفتك مرآة ضخمة مزينّة بإطار محفور بأسلوب «باروكي»  Style Baroque هو غاية في الجمال. إلى يمينها يوجد المطبخ بسقفه العالي وفرنه الحطبيّ وأوانيه الحديدية القديمة التي تنقل إليك صورة واقعية عن الحياة في القرن الثامن عشر في أوروبا. وفي الشمال هناك غرفة الاستقبال المعروفة ب«الغرفة الصفراء» لطغيان اللون الأصفر عليها. وفي هذه الغرفة كانت تستقبل والدة غوته ضيوفها وفيها بقايا من قماشات دانتيل وكروشيه وإبر وخيط وغيرها من الأشياء التي تدلّ على أنّ والدته كانت تهوى الخياطة والحبك. وأكثر ما يشدّ الانتباه في هذه الغرفة المشعّة بلون الشمس والذهب الصورة ذات الإطار البرونزي المعلّقة وسط الحائط ليوهان فوفانغ الشاب وهو يحمل رسماً على هيئة فتاة غير واضحة المعالم.
بعدها، صعدت الدرج الخشبي القديم ووصلت إلى الطابق الأوّل لأكتشف المزيد من جماليات هذا المكان الرائع الذي بُني عام 1707 والذي يحوي على نفائس غوته وأسرته المادية والأدبية والفنية والفكرية. في الطابق الأوّل تجد نفسك أمام غرف كثيرة متراصّة واحدة إلى جانب الأخرى، إلاّ أنّ اللون الأحمر القاني المنبعث من «الغرفة الحمراء» يجذبك أولاّ لترى نفسك فجأة وسط غرفة ملكية عن حقّ. فالفخامة سمة هذه الحُجرة التي كانت مخصّصة لاستقبال الضيوف الكبار والمهمين في
المجتمع الأوروبي آنذاك، خصوصاً أنّ والده كان يعمل مستشاراً للقيصر الألماني وكان رجلاً  متعلّماً ومقتدراً وكثير الأسفار، لذا فإنّ علاقاته كانت كثيرة ومعارفه ينتمون في شكل كبير إلى الطبقة المخملية. ولا شكّ أنّ الغرفة الحمراء كانت المكان الأنسب في القصر لاستقبال تلك الشخصيات الكبيرة والمهمة. وتتدلّى من سقف هذه الغرفة ثريّات كبيرة مصنوعة من كرات الكريستال الفاخرة والباهظة، أمّا الستائر الحريرية بلونها الأحمر فليست إلاّ دليلاً آخر على ترف هذه العائلة وذوقها الرفيع. وهذا ما تُكرّسه أكثر الغرفة المجاورة أو «صالة الموسيقى» التي تعكس ميول أسرة غوته الفنية وعشقها لكلّ ما هو فنّي وجميل.
وفي الطابق الثاني الذي تصله عبر سلالم خشبية معتقّة يُمكنك إيجاد المكتبة التي تضمّ أكثر من 2000 كتاب لغوته ووالده في أكثر من لغة استطعت أن أميّز منها كتباً سبق لي أن قرأتها مثل  l'Esprit des lois«روح القوانين» لمونتسكيو و La nouvelle Heloïse لجان جاك روسو مثلاً. وتُجاور المكتبة غرفة اللوحات والصور أو «غاليري» الذي يضمّ مجموعة كبيرة من أهمّ اللوحات خلال العصر الباروكي، فضلاً عن صور عائلية لجوته وشقيقته ووالديه وأجداده.
أمّا «غرفة غوته» فقد تكون هي الأصغر والأكثر بساطة والأقلّ كلفة وتعقيداً بين الغرف ال14 التي يتألّف منها قصره الأبوي، ربما يعود ذلك إلى شخصية غوته الشاعرية والبعيدة عن أي تكلّف. وأجمل ما يُمكن أن تُصادفه في هذا المنزل الذي فُتح أمام الزوّار عام  1863هي تلك المخطوطات المكتوبة بيد غوته نفسه والتي مازالت واضحة ونضرة وكأنّ كلّ تلك السنوات لم تمرّ عليها إطلاقاً. وهذه المخطوطات والدفاتر الخاصة التي مازالت محفوظة في شكلها الأساسي تمنح الزائر فرصة ليعيش لحظات من زمن ولّى ومع شخصية عظيمة طالما اعتُبرت من الشخصيات الأساسية في الحركة الأدبية العالمية. كما أنّ تعدّد الأعراق واللغات والأجناس التي نلتقيها في المنزل تُكرّس قيمة هذا الشاعر والكاتب الذي تدين له الحياة الأدبية في ألمانيا وأوروبا والعالم منذ ثلاثة قرون تقريباً.

وبعد الجولة الطويلة في القصر قصدت المتحف الذي بُني إلى جانب القصر لإقامة المنتديات والمهرجانات والاحتفالات الثقافية الكبرى، ولعرض كتب غوته بطبعاته المتعدّدة والمترجمة. ومن ثمّ خرجت من المتحف وكأنني أخرج من أعماق تلك الشخصية وتاريخها وأغوارها وأحسست بأنّ كلّ حجرة في هذا المنزل عرّفتني أكثر إلى صاحب «آلام فارتر»... فعلمت أنّ أدبه تدفّق من الجوّ الفني الذي أحاط به وأناقة أسلوبه نبعت من أناقة حياته ورومانسيته العالية انبثقت من المكان الشاعري الذي عاش فيه في قلب مدينة جميلة لم تستطع الحداثة فيها أن تقتلع الحضارة ولا الحاضر فيها أن يتجاوز التاريخ...

غوته في سطور
ولد يوهان فولفانغ غوته في 28 آب/ أغسطس في فرانكفورت المطلّة على نهر «الماين» عام 1749 لأسرة أرستقراطية. والده كان يعمل مستشاراً للقيصر ووالدته كان لها التأثير البالغ في شخصية غوته الذي يقول: «لقد ورثت عن أبي النظرة العميقة الجادّة إلى الحياة، وورثت عن أمّي استمتاعها بالطبيعة النضرة والحياة». درس غوته الحقوق إلاّ أنّ حبّه للفن والأدب والإبداع دفعه لدراسة الرسم والحضارة في شكل موازٍ لدراسته الجامعية.
يُعدّ الكاتب والفيلسوف الألماني يوهان هردر من أكثر الشخصيات المؤثرّة أدبياً في حياة غوته، إذ يُعتبر لقاؤهما في ستراسبورغ بمثابة نقطة تحوّل في حياة غوته كشاعر لما لعبه هردر من دور في تعميق نظرة غوته إلى الحياة والفنون والآداب الشعبية. وبعد عودة غوته إلى فرانكفورت لممارسة مهنة المحاماة، التقى بحبّه الكبير الذي فجّر إبداعه وكان وراء كتابة «آلام فارتر». فهذه الرواية التي شكلّت صدمة وأثارت ضجة كبيرة منذ إصدارها هي ترجمة لقصة الحبّ المستحيلة التي عاشها غوته مع خطيبة صديقه والتي دفعته إلى الكتابة بينما دفعت «فارتر» (بطل الرواية) إلى الانتحار.
كان غوته من الكتّاب الذين يولون الأهمية الأكبر للمشاعر والأحاسيس قبل أي شيء آخر، وهذا الإتجاه الذي عُرف ب «العاصفة والتيار» كان بطبيعة الحال الأنسب بالنسبة إلى الشباب، لذا نجد أنّ الشباب في أوروبا والعالم تأثرّوا إلى حدّ كبير بصاحب «فاوست» وبأبطاله على حدّ سواء. ولكن بعد مرحلة من النضج العمري والمهني والفني اتجّه غوته صوب التيار الكثر كلاسيكية وأخذت أعماله تهتم بالحضارات القديمة كاليونانية والرومانية. ومن الشخصيات التي أثرت في حياة غوته الشاعر الألماني والكاتب المسرحي الكبير شيلر والذي ارتبط مع غوته بصداقة قوية، ترفع كل منهم بها على المنافسات والأحقاد التي قد تنشأ بين الشعراء والأدباء الكبار. وعلى الرغم من محاولات البعض للإيقاع بينهما إلا أن هذا لم يحدث وظل الاثنان في علاقة وطيدة حتى جاءت وفاة «شيلر» عام 1805م، فنعاه غوته وكتب إلى أحد أصدقائه يقول « إنني قد فقدت نصف حياتي» وهي الجملة التي تعبر عن المكانة التي كان يحتلها شيلر في حياة غوته، كما أنّ شيلر قال قبل وفاته إنّ صداقته لغوته هي أهم حدث في حياته.
اهتمّ غوته بالثقافة الشرقية إلى حدّ كبير بعدما تعرّف إليها من خلال الترجمة الألمانية لقصائد الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي، وكتب في هذا المجال واحداً من من أهمّ أعماله «الديوان الغربي والشرقي» الذي أظهر فيه تأثّره الكبير بالفكر العربي والفارسي. وكان اطلاعه على الآداب العربية والفارسية نقطة تُحسب له وتُميّزه عن باقي كتّاب أوروبا. ومن الشعراء العرب والفرس الذين ذُكروا في بعض كتاباته المتنبي  وجلال الدين الرومي والفردوسي، كما أنّه قرأ كثيراً لشعراء الجاهلية أمثال امرئ القيس وزهير بن أبي سلمى وعنترة بن شدّاد وطرفة بن العبد...وقد أصرّ في كتابه على استخدام كلمة «ديوان» وليس كلمة ألمانية مُرادفة لإعجابه بهذه الثقافة ولإصراره على إضفاء اللمسة الشرقية على عمله. تنوّع أدب غوته ما بين الرواية والكتابة المسرحية والشعر وأبدع في كل منها، وعُرف عن غوته احترامه للآخر وانفتاحه الكبير وتقديره للإسلام كدين يحمل الكثير من القيم العظيمة، وكان من المهتمين بالإسلام والقرآن الكريم، وبسيرة الرسول (ص)، وهذا ما أكدته أستاذة الأدب الألماني كاترينا مومزن عندما قالت «إن علاقة غوته بالإسلام ونبيه الكريم ظاهرة مدعاة للدهشة في حياته، فكل الشواهد تدلّ على أنه في أعماقه شديد الاهتمام بالإسلام، وان غوته كان يحفظ عشرات من آيات القرآن الكريم». ونظراً لأهمية غوته في الحياة الأدبية الألمانية، تمّ إطلاق اسمه على أشهر معهد لنشر الثقافة الألمانية «معهد غوته» في كل أنحاء العالم، ويُمثّل هذا المعهد المركز الثقافي الوحيد لألمانيا في العالم أجمع.
توفي  غوته عام 1832 عن عمر يناهز 82 عاماً تاركاً للمكتبة الأدبية العالمية إرثاً فكرياً لا ينضب. ومن أعماله المتنوعة نذكر منها: «آلام فارتر»، «المتواطئون»، «إيجمونت»، «فاوست»، «من حياتي... الشعر والحقيقة»، «الرحلة الإيطالية»، «المرثيات الرومانية».