الحنين إلى صقليّة...

المهرجان القومي للمسرح المصري, كلاسيكية , ألبوم غنائي, مهرجان بيت الدين, عرض ازياء تراثية, صقلية, الجمهور, روبرتو آلانيا, أنجيلا غيورغيو

18 يوليو 2011

في زيارته الأولى للبنان قبل حوالي تسع سنوات، قدّم الإيطالي روبرتو آلانيا أمسية أوبيرالية لا تُنسى في مدينة الشمس بعلبك. يومها كان برفقة زوجته السوبرانو الرومانية أنجيلا غيورغيو، ومعهما اكتشف الجمهور اللبناني جمالية الغناء الأوبرالي الثنائي الحديث.
وهذا الصيف، استضاف لبنان مرّة جديدة المغني الأوبرالي الأنشط على مستوى رحلاته وحفلاته والأغزر في عدد ألبوماته وأعماله. إلا أنّ زيارته الثانية كانت مختلفة عن الأولى على جميع الصعد والمستويات.
فبعد انفصاله قبل سنتين عن زوجته، أتى آلانيا وحيداً إلى لبنان وأدّى حفلته الأوبرالية منفرداً بعدما اعتدنا على سماع صوته الرخيم يُرافقه صوت أنجيلا الجميل.
ومن قلب بعلبك ووسط هياكل باخوس (2002) قصد روبرتو آلانيا هذه المرّة القصر الشوفي البديع «بيت الدين» ليستعيد فيه أروع الأغنيات الصقلية التراثية التي جمعها في ألبوم أهدى عنوانه إلى الحفل الجبليّ الكبير The  Sicilian (من صقليّة).

التينور الإيطالي احترم هيبة المكان الذي هو في حضرته وقدّر تاريخ أصحابه. فاعتلى المسرح بأناقة أمير وقوّة ملك وأوقع سحره على كلّ الحاضرين.
صوته سبح في أرجاء الفضاء المفتوح على النجوم والليل والقمر، من دون أن يعوقه حدّ. في هذه الليلة الصيفية الدافئة، كان قصر الأمراء في أعالي جبال لبنان ينطق بالإيطالية، وترقص أعمدته ومدرّجاته على أنغام صقليّة هادئة أحياناً ومُشتعلة أحيان أخرى.
فالمغنّي الأوبرالي الآتي من أهمّ وأكبر مسارح العالم مثل «لا سكالا» في ميلان و«ميتروبوليتان» في نيويورك و«كوفنت غاردن» في بريطانيا، أدهش جمهور بيت الدين بقدرته العالية على التنقّل بين الطبقات الصافية في علوّها والعذبة في انخفاضها.

وقد نجح آلانيا في كسر صورة «التينور» أو الفنان الأوبرالي في شكله التقليدي الذي لا ينسجم إلاّ مع نخبة من هواة الفنّ الكلاسيكي، بحيث قدّم عرضاً فنياً مزج فيه بين الغناء الراقي والشعبي الذي لا يخلو من الدراما والتمثيل والرقص.
ولأنّ التراث الصقلي معروف بأجوائه الرومانسية الهادئة والكئيبة وأرشيفه ثريّ بالأعمال الفنية ذات الإيقاعات الحزينة، حاول آلانيا أن يستثمر خفّة ظلّه في تغيير الأجواء بعد كلّ أغنية حزينة ليُقدّم طرفة أو حكاية كوميدية يرويها في أغنية إيقاعية تُلهب الجمهور وتزيد من حماسته واهتمامه. فكانت المُناخات تتغيّر وتتبدّل برشاقة كبيرة تماماً كطبيعة آلانيا النشطة.
وما شاهدناه في هذا الحفل جعلنا نشعر بموهبة هذا الفنان الفرنسي ذي الجذور الإيطالية الصقليّة، في أن يُغيّر من نمطية «الأوبرا» ساحباً إيّاها من تحت البساط الذي طالما تربّع عليه النخبويون والكلاسيكيون ليضعها أمام الشريحة الأكبر من الجمهور الذي يستسيغ كل ما هو راقٍ وبسيط.
وبدا روبرتو شديد الذكاء عندما اختار تقديم مقطوعات إيطالية يعرفها الجمهور اللبناني ويعشقها مثل موسيقى «سينما براديزو» وأغنية فيلم «العرّاب» و«ماما ميا» وغيرها...

كما استطاع أن يتجاوز حاجز اللغة بينه وبين الجمهور اللبناني مُحدثاً إيّاه بالفرنسية والإنكليزية والعربية أحياناً. ولم يتوانَ عن تقديم بعض الأغنيات العربية التي حفظها من خلال شاب تونسي كان يعزف ويُغني في الحيّ الذي يقطن فيه في فرنسا، لذا اختار أن يختم السهرة بأغنية «سيدي منصور» من التراث التونسي بمُشاركة فتاة لبنانية أُعجب بصوتها خلال التحضير للحفل تُدعى «زينة».
وبالرغم من توزيع برنامج الحفل على الحضور، لم يلتزم آلانيا بالبرنامج الذي أُشير في نهايته إلى إمكان تغييره نظراً إلى ميل آلانيا للارتجال، وهو يعترف بأنّ واقعه على المسرح وعلاقته بجمهوره وبالمكان الذي يُحيطه هي الأمور الأساسية التي تُحدّد الأغنيات التي سيؤديها وليس أي شيء آخر.
وفي هذا الإطار، قرّر ابن صقليّة أن يُغنّي مقطوعة من وحي «بيت الدين»، إذ قال للجمهور إنّه لم يكن يعرف أنّ هذا المعلم السياحي الكبير له معنى ديني ويعني دار التعبّد والصلاة، لذا اختار أن يُقدّم أنشودة روحانية من تراث صقلية استذكرها في محضر حديثه عن هذا المكان الساحر الذي قال فيه إنّه جعله يشعر وكأنّه بطل من أبطال قصص ألف ليلة وليلة.