بين فرساي واللوفر...
ثقافة, فرنسا, حضارة, حميد القصري, متحف اللوفر, عروض باريس, متحف ميتروبوليتان النيويوركي, المنحوتات الإغريقية, متاحف, قصر فرساي, إبداع
28 مايو 2012قصر فرساي
ما إن وصلت إلى منطقة فرساي التي تبعد 25 كلم غرب باريس حتى استعدت فصول مادّة «الحضارة» التي درستها على مدى سنتين ضمن منهج اختصاصي الجامعي في اللغة الفرنسية وآدابها.
الرحلة إلى فرساي تستلزم منك جهداً كبيراً للتجوّل في كلّ أنحاء القصر الضخم وحدائقة وصالوناته والقصور المكمّلة له.
هكتارات طويلة تمتدّ أمام ناظريك. مساحات خضراء شاسعة تنتظرك. قصر شاهق بأبنية ضخمة ومتعدّدة يناديك. الرحلة ليست سهلة. إلاّ أنّ الجمال المنتشر في كل اتجاه داخل هذا المكان وخارجه يُسهّل الزيارة ويزيدها شغفاً وحماسةً.
دخلت القصر. احترت من أين تكون البداية. قرّرت أن أبدأ من صالة العروض. تصادف وجودي في القصر وإقامة معرض خاص بلوحات ورسوم لوجون الشاهدة على حروب نابليون الطويلة.
لوحات لوجون بألوانها الحيّة وتفاصيلها الكثيرة ومواضيعها المتنوعة نقلتني إلى أجواء معارك نابليون في بلاد الشرق والغرب. ثمّ دخلنا إلى معرض خاص بمقتنيات نابليون وملابسه وأسلحته.
خرجت من معرض قائد الثورة الفرنسية لأعود إلى ما قبل نابليون. إلى العصر الملكي في فرنسا. دخلت «صالة الزجاج» المعروفة ب Palais de glaces لأجد نفسي وسط حياة أخرى من زمن آخر. يبلغ طول القاعة 72 متراً.
الثريات الذهبية الغنية بالكريستال البوهيمي اللمّاع تتدلّى من السقف العالي بأعداد كبيرة. الأنوار الخارجية يعكسها زجاج هذه الغرفة المدهشة بفخامتها وترفها. لهذه الغرفة أهمية تاريخية.
فيها عُقدت أهم معاهدات العالم «معاهدة الصلح في فرساي». هناك فرضت فرنسا عقوباتها على ألمانيا. في هذه الغرفة المتلألئة كرّس الحلفاء انتصارهم على الألمان وأعوانهم في الحرب العالمية الأولى.
ذهبت أبحث في الغرفة عن شاهد يدلّ على تلك الواقعة التاريخية دونما جدوى. وبالصدفة قرأت جملة بسيطة كُتبت أسفل لوحة مُعلّقة على الحائط «في 28 يناير 1919 رُدّت الإلزاس واللورين إلى فرنسا».
من صالة الزجاج إلى القاعة الحمراء، وصلنا الى غرفة الملك. سرير ضخم يتوسّط الغرفة. سرير لا مثيل له إلاّ في أفلام هوليوود التاريخية. غرفة أخرى جميلة تُراوده. إنها غرفة الملكة. غرفة «النبلاء». فيها تستقبل الملكة ضيوفها الرسميين.
المعروف أنّ قصر فرساي تعاقب عليه ملوك فرنسا وملكاتها. إلاّ أنّ القصر التصق كثيراً باسم آخر ملوك فرنسا لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت التي أُسندت إليها المقولة الشهيرة: «إذا لم يكن الشعب قادراً على أن يأكل الخبز فليأكل البسكويت».
روح هذه الملكة العاشقة للترف موجودة في كلّ زاوية من زوايا القصر. وكذلك في الحدائق والقصور المُلحقة به.
الخروج من القصر إلى الحديقة يعني الخروج من الجمال إلى الجمال. مناظر طبيعية خلاّبة. جبال زرقاء تختبئ وراء مسطحات خضراء. نوافير مائية تتصاعد عمودياً على طول التماثيل المنتصبة في الحديقة الرئيسية. إنها مشاهد تُزكّي حقاً الخيال وتسوقنا نحو عوالم لا وجود لها إلاّ في القصص الخيالية والروايات.
ركبنا القطار الصغير واتجهنا صوب القناة الكبيرة وبحيرة الأشباح و»التريانون» الكبير و»التريانون» الصغير. والجدير ذكره أنّ التريانون الكبير هو عبارة عن قصر صغير اتخذه لويس الرابع عشر ليُقيم فيه مناسباته الخاصة مع المقربين منه بعيداً عن القصر الرئيسي.
أمّا التريانون الصغير فالتصق باسم ماري انطوانيت، ملكة فرنسا النمسوية التي جعلت منه مصغّراً لبلدها الأصلي النمسا. جعلت ماري أنطوانيت من هذا القصر الصغير ما يُشبه المزرعة، وقد كان يُقال إنّ ماري أنطوانيت كانت تمضي فيه القسم الأكبر من حياتها لأنّها كانت تتخلّص هناك من العادات والتقاليد الملكية وتُمثّل وتُغنّي وتلهو مع أصدقائها على سجيتها.
بطاقة تعريفية عن القصر
هو من أهم القصور الملكية في فرنسا. أمر لويس الثالث عشر ببنائه عام 1624، إلاّ أنّه لم يكن قصراً بل بيتاً صغيراً يقصده الملك أثناء الصيد لقربه من الأدغال المناسبة لممارسة هواية الصيد. ثمّ أمر بعد حوالي عشرة أعوام بتوسيع البيت.
إلاّ أنّه في العام 1682 شيّد لويس الرابع عشر قصراً مكان البيت. وفي هذا العام انتقل من اللوفر في باريس إلى منطقة فرساي بعدما اتخذّ من القصر مقرّاً رسمياً لإقامته الملكية.
وظلّ ملوك فرنسا يتعاقبون عليه إلى أن هجم عليه الثوار الفرنسيون وحاصروه باعتباره الرمز الرئيسي للحكم الملكي. فأُجبر عندها لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت على مغادرة القصر ثمّ نُفّذ فيهما حكم الإعدام بعد فترة من الثورة.
المشي في شوارع باريس ثقافة. الحضارة في هذه المدينة لا تُقصد، بل تُصادَف. في كلّ خطوة. في كلّ منطقة وحيّ وزقاق... على جانبي نهر السين تصطفّ الأبنية العريقة التي تُخبّئ في حجارتها وهندستها و تصميمها حكايا عُظماء العالم. لا أدري من أين أبدأ... المتاحف هنا تتجاور كأنّها عمارات سكنية.
الكنائس العتيقة تتقابل. القصور الشهيرة تتلاقى... وكأنّ التاريخ كلّه اختُصر هنا، في بلاد موليير وفيكتور هوغو... في باريس، لا شيء أفضل من اكتشاف ثقافات العالم المُكتَنَزة في هذه المدينة. متحف اللوفر، أكبر متحف وطني في فرنسا، هو حتماً الوسيلة للتحليق بنا في فضاء التاريخ والجمال والإبداع الإنساني الخالد.
متحف اللوفر
دعوني أقول بدايةً إنّ اللوفر ليس متحفاً، بل هو مجموعة متاحف كبيرة. لقد سمعت عن عظمة هذا المتحف إلاّ أنّ الوقوف أمامه يبقى شيئاً مختلفاً. أبنيته العريقة المتلاصقة تقف بصلابة وكأنها بُنيت للتوّ.
الهرم الزجاجي في وسطه يأخذك بروعة هندسته. البُرَك والنوافير المائية الخارجية جعلتني أعيش حالة من الانبهار والعشق لهذا المكان الذي سحرني قبل أن أدخله وأُسحر بمقتنياته الفنية المذهلة.
القاعات طويلة.. والدهاليز كثيرة. ولا يُمكن للزائر أن يعرف من أن يبدأ من دون اعتماد الخريطة التي تُساعده في الوصول إلى القاعات التي من المفترض تحديدها مسبقاً.
البداية أردتها من خلال القاعة الكبرى. اخترت الفنون الإيطالية ودخلت لمشاهدة رائعة ليوناردو دا فنشي «الموناليزا». وأنا أتقدّم بخطوات متسارعة نحو تلك القاعة حضرت في ذهني صورة أول مشاهد الفيلم المقتبس عن رواية دان براون الشهيرة «شيفرة دا فينشي».
مع فارق أنّ زيارتي كانت في وضح النهار بحضور أعداد كبيرة من الزوّار الذين أرادوا جميعاً أن يختبروا سرّ «الجوكوندا» الكامن في نظرتها وابتسامتها.
الحشود تقف في وجه اللوحة التي لم أنتبه إليها في بادئ الأمر. لفتتني لوحة تُصوّر وجه فرانسيس الأوّل للرسام الإيطالي تيتان. أخذت أرصد اللوحات الضخمة على أمل أن تخفّ زحمة الزوّار الملتفين حول اللوحة الأشهر في العالم.
الموناليزا أو الجوكوندا هي من الأعمال المُسيّجة والتي لا يُمكنك الإقتراب منها. يُسمح لك برؤيتها من وراء الزجاج، مع حبل عريض يفصل الزاوية التي تضمّ هذه اللوحة عن باقي الصالة.
مجموعات كبيرة من الزوّار قرّرت أخيراً أن تفسح المجال أمام غيرها لرؤية تحفة الفنّ العالمي والتقاط صورة تذكارية إلى جانبها. تجلّت اللوحة أمامي. فجأة أرى الموناليزا تبتسم لي. نظرتها تُغريني بالتقدّم نحوها والتقاط الصورة بجانبها.
إلاّ أنّها في الواقع خذلتني. لا أدري لماذا كنت أعتقد أنّها أكبر حجماً. طالما سمعت أنّ الموناليزا ليست ضخمة كبقية اللوحات المعروفة في الفنّ الإيطالي.
إلاّ أنّه لم يخطر ببالي أن تكون بهذا الحجم الذي جعلني غير قادرة على التقاط تفاصيلها وغموضها وسحرها من تلك المسافة المفترض احترامها.
أخذت صورتي التذكارية أمامها وأنا أفكّر كيف يُمكن لتلك اللوحة الصغيرة بحجمها أن تكون أشهر مقتنيات هذا المتحف الضخم.
أخرجت الخريطة من حقيبتي. هممت بالخروج سريعاً. وأكملت مسيرتي داخل هذا الصرح بسرعة فائقة حتى أتمكن من دخول القاعات الخاصة بالفن الإيطالي قبل زيارة قسم «الشرقيات» و»مصر القديمة» و»الحضارتين الرومانية واليونانية» و»مدرسة الفن الفرنسية».
وأنا أمشي في رواق الصالة الكبرى المؤدية للقاعات الكبيرة والصغيرة كنت أستمتع بمشاهدة المنحوتات العائدة لمدارس الفنّ الإيطالي المختلفة. إلاّ أنّ أكثر ما لفتني هي تلك التحفة البيضاء التي لم أكن قد سمعت عنها أو شاهدتها من قبل.
أحببتها حتى قبل أن أعرف اسم صانعها. معالم وجه الرجل، وقفته، ثنية ركبته... كلّ ما فيها جعلني متحمسة لمعرفة إسم العبقري الإيطالي الذي قدّمها، لأكتشف في ما بعد أنّ هذا النحات هو ليس إلاّ الرسّام الشهير مايكل أنجلو.
التمثال بعنوان «العبد المتمرّد» The Rebellious Slave، وبالرغم من كونها تعود إلى عصر النهضة إلاّ أنّها تترجم فعلاً واقع الشعوب العربية الكادحة التي وقفت وتمردّت ورفعت صوتها المخنوق مُطالبةً بحقوقها الإنسانية والمدنية.
بعد الاستمتاع بأعمال فنية وتاريخية لكبار الرسامين أمثال رافاييل وجيوتّو وكارافاجيو، قرّرت أن أقصد المدرسة الفرنسية لمشاهدة لوحة واحدة كنت قد درستها أيّام الجامعة وأحببتها بعد أن فهمت أبعادها واهتممت بتفاصيلها.
لوحة دولاكروا الشهيرة Liberty Leading The People أو «الحريّة قائدة الشعوب» هي العمل الفني الأكثر التصاقاً بذكرى الثورة الفرنسية الشهيرة.
هذه اللوحة تعود إلى المدرسة الرومانسية في فنّ الرسم الفرنسي. نُفذّت بالزيت على القماش وهي ضخمة الحجم 225*260 سم.
يستلزم اكتشاف متحف اللوفر يستلزم وقتاً يفوق الشهر. المنحوتات والتحف واللوحات كثيرة، كما أنّ المدارس الفنية التي يحويها متنوعة.
لذا، حاولت أن أحدّد الأقسام التي عليّ زيارتها سلفاً. من هنا، قمت مباشرةً بعد التدقيق بلوحة دولاكروا الرائعة التي أنهاها عام 1830 بالاتجاه صوب قسم «الشرقيات» علّني أجد ما يخصّ تاريخي الفينيقي القديم.
في هذا القسم شاهدت آثاراً فينيقية صغيرة تعكس حياة الفنيقيين في تلك الحقبة من الزمن. تحت عنوان Gastronomie أو «الطعام» تجد آثاراً تدلّ على الأكل الذي كانوا يعتمدونه في الحضارة الفنيقية كالحبوب والعدس والقمح. كما أنّ الأواني الفخارية الصغيرة يبدو أنها كانت تحتلّ حيزاً في حياتهم اليومية.
آثار ومنحوتات رائعة من مدن فينيقية عديدة مثل «صيدون» أو ما يعرف بمدينة صيدا اللبنانية ومن بيبلوس أو مدينة جبيل وصور وأوغاريت ورأس شمرا في سورية وغيرها.
كما أنّ هناك العديد من المقابر والنواويس الرخامية الكبيرة والعائدة إلى الفنيقيين مثل ناووس أشمنعزر الثاني، ملك صيدون أو صيدا الفينيقية.
إلى جانب الآثار الفينيقية التي تشمل آثاراً من لبنان سورية وفلسطين، يضم قسم الشرقيات الذي يشغل النصف الشمالي من الطبقة الأرضية مجموعة كبيرة من آثار عراقية تعود إلى حضارة بلاد ما بين النهرين وقبرص وشمال افريقيا وإيران.
وهي تُمثّل مختلف العصور التاريخية. ومن أهمّ تلك الآثار وأشهرها «مسلّة حمورابي» التي عُثر عليها في سوسة بعد أن سُرقت من بابل.
وتُعدّ هذه المسلّة القيّمة من أهم مقتنيات متحف اللوفر. وهي تحمل شريعة حمورابي، ملك بابل في بداية الألف الثاني قبل الميلاد.
والشريعة تأتي على شكل نصوص مدونة على المنحوتة المصنوعة من حجر البازلت الناعم. من قسم الآثار الشرقية اتجهت صوب القسم الخاص بالحضارة الفرعونية.
اتبعت السهم المؤدي إلى قسم حضارة مصر القديمة. دخلت هذا المكان من رواق طويل يقودك باتجاه صالة العرض. رواق طويل تنتصب على جانبيه الأهرام والتماثيل. تمشي وسطها مندهشاً وكأنّك تطير عبر أزمنة التاريخ.
الحنين إلى العصور الغابرة بعظمتها وإبداعها اجتاحني. قسم الآثار المصرية القديمة هو فهلاً الشاهد الحيّ على ثراء منطقتنا العربية بالحضارة والآثار والفنّ والإبداع.
يحتلّ قسم «الفراعنة» مساحة واسعة في المتحف الأهم في العالم. فيه تجد المومياءات والبرديات والأواني الفخارية وأدوات زينة كالحُلى الذهبية ودواة الكُحل وغيرها...
يبدو من كلّ هذه الآثار أنّ المرأة الفرعونية كان لها حضور قوي في مجتمعها. فهي حاضرة في الرسوم والتماثيل بعينيها السوداوين الواسعتين وثيابها الغنية بالنقوش والرسوم والألوان.
ومن أهم الآثار الموجودة في هذا القسم وأجملها على الإطلاق تمثال «إيزيس» الجميلة باستقامتها ووقفتها الواثقة، وتمثال «رمسيس الثاني» وتمثال امنحوتب الرابع الذي أطلق على نفسه اسم «أخناتون»، فضلاً عن جرّة تحوي أربع أيادٍ بدلاً من اثنتين وفيها نقوش تُمثل نماذج من الحياة المصرية القديمة كوجه امرأة سمراء بشعر أسود فحمي وعينين مكحلتين وحيوانات كالثور والحصان والحمار وجرار أخرى صغيرة...
خرجت من قسم «الفراعنة» لأنهي هناك رحلتي التي استمرت يوماً كاملاً في اللوفر. خرجت من المتحف وسعادة كبيرة تغمرني. خرجت من قسم الشرقيات ومصر القديمة بشعور فخر واعتزاز لكونني أنتمي إلى حضارة ممتدةٌ جذورها في عمق التاريخ البشري.
بطاقة تعريفية عن متحف اللوفر في باريس
يفوق عدد زوّار متحف اللوفر 9 ملايين زائر سنوياً. وقد بناه فيليب أوغست عام 1190 كحصن يحمي المدينة في حال تعرضها لأي هجمة مفاجئة خلال فترة غيابه عن باريس لالتحاقه بالحملات الصليبية.
وأخذت القلعة إسم المكان الذي شيدّت عليه. تحوّل بعدها إلى قصر وتم بناء ملحقات خاصة به، فسكنه الكثير من ملوك فرنسا الوارثين إلى أن هجره عام 1672«ملك الشمس» أو لويس الرابع عشر بعدما اتخذّ من قصر فرساي مقرّاً دائماً له.
1699: شغلت المبنى أكاديميتان للتمثيل والنحت والرسم.
1791: أصبح مكاناً لجمع التحف والتماثيل في العلوم والفنون.
1793: افتتاح اللوفر كمتحف رسمي ومركزي للفنون.
1798: وصول أهم المنحوتات واللوحات والتماثيل من إيطاليا.
1999: بناء الهرم الزجاجي واعتماد شكله الحالي.