بون مدينة بيتهوفن

سفرجل, سياحة, ألمانيا, بيتهوفن, متحف ميتروبوليتان النيويوركي, نهر الراين, كاتدرائية كولن, كاتدرائية, مؤتمر, جزيرة يالطا

28 أغسطس 2009

كانت بون عاصمة الجمهورية الألمانية الفيدرالية عام ١٩٤٩ بعد مؤتمر يالطا الذي عقد في جزيرة يالطا عام ١٩٤٥ حين اجتمع قادة الحرب العالمية الثانية روزفلت وتشرشل وستالين، وقسموا العالم قسمين، ووضعوا خريطة عالم القرن العشرين.

تخلت بون عن موقعها كعاصمة لبرلين عام ١٩٩٠ التي عادت عاصمة لألمانيا بعد سقوط جدار برلين في تشرين الثاني/نوفمبر ١٩٨٩ على وقع أغنية بينك فلويد Another Brick in the wall «آجرة أخرى في الجدار ». وبسقوط الجدار عادت الخريطة الألمانية إلى سيرتها الأولى، وتغيرت معها خريطة عالم القرن الحادي والعشرين.

في القطار نحو بون

كانت رحلتي إلى بون تشبه رحلة وسط متاهة طبيعية يستحيل عليّ الخروج منها، ليصبح التيه بين أروقتها وكأنه فعل لاإرادي يجرّني إلى عالم جميل في قطار ينساب على شبكة عنكبوتية تخترق سحراً فريداً تحضنه الغابة السوداء.

بدأت الرحلة وكانت المقصورة خالية فجلست في مقعدي إلى جانب الشباك أنظر إلى المشاهد التي بدأت تنهال على ذاكرتي بسرعة البرق: ريف أخضر تنبثق منه بيوت قرميدية تتناغم مع كروم العنب المتدحرجة على الروابي.
وصلنا إلى بون وكانت حركة الشوارع في بون خجولة عند الساعة التاسعة مساءً.


على ضفة نهر الراين

في الصباح التالي، شربت قهوتي على الشرفة ورحت أتأمل نهر الراين الذي يشطر بون ضفتين.

إنني في بون المدينة التي ولد فيها عظماء التاريخ ومنهم لودفيك بيتهوفن الذي سحر العالم بموسيقاه رغم الصمم الذي اكتسح أذنيه فقد كانت عبقريته أقوى من العجز الجسدي.

وفي جامعة بون راينيش فريدريش فايلهلمز درّس كارل ماركس الذي غيّرت فلسفته مجرى تاريخ العالم وقسمته رأسمالياً وشيوعياً، أما فريدريك نيتشيه مؤلف «هكذا تكلم زرادشت » صاحب مذهب إرادة القوّة فقد درس في الجامعة نفسها الفلسفة واللاهوت.

كل هؤلاء وغيرهم حضنتهم هذه المدينة الجميلة التي تبدو علاقتها بالتاريخ كجدل ماركس وإرادة القوة عند نيتشه وسمفونيات بيتهوفن.

رحلة التعرف إلى المدينة

مشاهد فرانكفورت وبادن بادن تتكرر أمامي، الأبنية ذات النمط النيوقطي تجاورها الأبنية الحديثة والأشجار الوارفة تنتشر في وسط الطريق الاسفلتي وطرفيه، تتفرع منه شبكة طرق فرعية مرصوفة وكأنما الحداثة ولدت من رحم التاريخ.

اللافت في الشوارع الداخلية في بون أنها ضيّقة و قديمة جداً ومرصوفة بالحجارة، وفي الوقت نفسه ذات اتجاهين مما يضطر أصحاب السيارات في الاتجاهين لانتظار بعضهم للعبور فلا تجدهم يتذمرون أو يتأففون بل يشكرون بعضهم، وكأن التكافل الاجتماعي يطبق هنا حتى على قوانين السير!

كان وسط المدينة التجاري مكتظاً بالمشاة والموسيقيين الذي يعزفون آملين أن تسقط في الدلو الذي يضعونه أمامهم بعض النقود. هنا فردوس التسوّق بكل أنواعه، إذ تتجاور البوتيكات التي تعرض لأهم دور الأزياء وسلسلة البوتيكات المنتشرة في معظم أنحاء العالم.

متحف بيتهوفن

تحول المنزل الذي ولد فيه بيتهوفن إلى متحف ويحتوي على سماعاته والبيانو الذي كان يعزف ويؤلف عليه موسيقاه وقد تُركا في الوضعية التي كانا عليها في حياة بيتهوفن، كما تعرض في هذا المتحف الأشياء التي كان يستعملها في يومياته مثل نظاراته والريشة التي كان يكتب بها والمحبرة، وعُلقت على الجدران رسوم تروي كيف أصيب بالصمم.

تركنا متحف بيتهوفن وأكملنا مشوارنا ووصلنا إلى ساحة مونستربلاتزيه التي تتحلق حولها المقاهي عند أقدام أبنية قديمة تحضن كل بهاء الهندسة المعمارية الألمانية بقرميدها وواجهتها الخشبية وشرفاتها التي تتدلى منها أصص الزهور، تراقب مجسم بيتهوفن العملاق الذي يتوسط الساحة وتصدح موسيقاه في المكان.

قررنا الجلوس في أحد المقاهي وتناول القهوة على وقع أنغام هذا الموسيقي. كان الليل قد أسدل ستاره ورغم ذلك كان الوسط التجاري مزدحماً. تركنا زحمة الوسط وعدنا أدراجنا.

إلى ضفة الراين عبر الدراجة الهوائية

في اليوم التالي قررنا الذهاب إلى ضفة الراين عبر الدراجة الهوائية. هنا في ألمانيا اقتناء دراجة هوائية من الأمور الأساسية التي لا يُستغنى عنها، إذ يمكن أن تستغني عن السيارة، ولكن الدراجة لا، لذا تجدها في موقف كل منزل قررنا التنزه على ضفاف الراين عبر الدراجة الهوائية.

في البداية لفتني زحمة السير ولا أحد يطلق بوق سيارته فسألت إلى أين تتوجه هذه السيارات ولا يوجد سوى النهر، فعلمت إنهم بانتظار العبّارة التي تقل السيارات والركاب إلى الضفة الثانية.
توجهنا نحو رصيف خاص لركوب الدراجة يمتد على طول النهر وتنطبق عليه قوانين السير.
لم نكن وحدنا من يمارس ركوب الدراجة، فعلى امتداد الرصيف تلتقي ركاباً كبار السن وشباباً وموظفين منهم من كان يرتدي بذلة رسمية ويبدو أنهم عائدون من أعمالهم. أما الرصيف المرتفع فيبدو أنه مخصص لهواة الركض، وكانوا من أعمار مختلفة.

كاتدرائية كولن

نزلنا في المحطة والتي فيها سوق مغلقة تضم متاجر ومقاهي، اخترقناها إلى أن انبثقت أمامنا كاتدرائية كولن الأشهر في أوروبا والتي أخذت مظهرها الأخير في القرن التاسع عشر. الوقوف أمام ساحتها الخارجية فيه من الرهبة، لم أستطع أن أخفي دهشتي بارتفاعها الذي يبلع ١٥٧ متراً مما جعلها ثالث كاتدرائية في أوروبا من حيث الارتفاع، وبالهندسة المعمارية القوطية التي تعكس شغف الفن. ولا بد أن تسأل كيف استطاعوا في ذاك القرن أن يشيّدوا بناء شاهقاً كهذا؟ وكيف استطاعوا أن ينحتوا على قببها وواجهاتها الخارجية كل هذه الروائع؟

تتحلق في ساحة الكاتدرائية المقاهي وتضج بالفنانين، فهنا موسيقي يعزف على غيتاره أنغام الروك أند رول، وآخر يعزف على الكمان موسيقى كلاسيكية كأنني وسط كرنفال.
لفتني ثلاثة ممثلين إيمائيين الأول يرتدي لباساً فرعونياً وقد طلى وجهه باللون الفضي، والثاني تنكّر بزي عملاق والثالث يرتدي زي دوق طلى وجهه بالأبيض. اقترب مني صاحب الوجه الأبيض الذي اختفت كل معالمه ما عدا عينيه الزرقاوين اللتين جعلتاني أشعر بالخوف...
ترددت في البداية ولكن قلت في نفسي لمَ الخوف والساحة تضج بالناس.
توجهنا نحو السوق كان السوق يعج بالمتسوقين والناس العائدين من أعمالهم وكذلك التلامذة.
تكرر مشهد السوق أمامي كما في فرانكفورت وبادن- بادن الوجوه نفسها والنمط المعماري نفسه ورغبة الاحتفال بالحياة هي نفسها.

هناك أيضاً الكاتدرائية القديمة التي بدت ي أنها تحدق إلى العصر بكل أشكاله وسلوكه الإنساني. كل شيء في ألمانيا يروي تاريخاً وحداثة في آن واحد.

في صباح اليوم وفي طريقي إلى محطة القطار المتوجه إلى فرانكفورت ، بدت لي البيوت الجميلة المندسة في الروابي المتدحرجة على ضفتي هر الراين لوحة انفلتت منها الأبعاد الأربعة وتركت العنان لغابة السوداء ترسم ألوانها وتزخرف جمالها.


وصلنا إلى مطار فرانكفورت وكان المحطة الأخيرة لنهاية أيام جميلة أمضيتها في حضن العالم الألماني. شعرت الغصة وعدت إلى التحليق في متاهة الفضاء الكونية التي ترميني في كل مرة أحلّق فيها في عالم مدن تشعل الأرض بجمالها. ودّعت ألمانيا وغاباتها ونهريها الراين والماين. إنهما نهرا الزمن للذان يحفظان في أعماقهما كل أسرار أوروبا وأخبار ناسها وتاريخها.