ليفربول مدينة 'البيتلز' لا تنسى مبدعيها

مهرجان الموسيقى العريقة, لندن, لوحة / لوحات فنية, كرة قدم, تاريخ, ليفربول, فريق البيتلز , أجور الفنانين, نساء فلسطين, متحف ميتروبوليتان النيويوركي, قطار بيروت, إنكلترا, مانشستير, جون لينون, ألبرت دوك, حوض مائي, النمط الفيكتوري, الأمير ألبرت, رصيف سفن

04 سبتمبر 2009

ليفربول. اسم يرتبط في ذاكرتي بفريق ليفربول الإنكليزي لكرة القدم ، و فريق البيتلز الذي اكتسحت شهرته العالم في ستينات القرن الماضي. والفريقان خفقت وما زالت تخفق لهما قلوب الملايين. فكُرة ليفربول تراقص الأقدام والقلوب والأعين في آن واحد لتفاجئ الشباك بهدف يفرج عن الأنفاس بعدما حبسها لثوان يُظن أثناء انتظاره أنها ساعات. بينما ترقّص موسيقى البيتلز أجساد وآذان وأحلام الملايين من كل أنحاء العالم لتأخذهم إلى عالم موسيقي تنفلت الروح في أفلاكه.

عندما قررت السفر إلى ليفربول لم أفكر في الزمن ومسافاته الجغرافية، وركبت القطار من لندن العاصمة  . ثلاث ساعات تفصلني عن ليفربول أمضيتها بين قراءة الكتيب السياحي للمدينة  والدندنة مع جون لينون أحد أعضاء البيتلز الغني عن التعريف أغنية Imagine "تخيل"، هذه الأغنية التي استعيرت منها جملة" فوقنا السماء فقط" Above us only sky  وكتبت فوق مجسّم جون لينون البرونزي  الذي وضع في مدخل مطار ليفربول بعدما أطلق عليه اسم مطار جون لينيون. ورحت أتخيل ليس ما تقوله الأغنية، بل المدينة التي عرفتها قبل أن ألتقيها.


اللقاء الأوّل  وتحقّق الصور الإفتراضية

توقفت عجلات القطار وتوقفت معها أفكاري الافتراضية، لأغوص في عالم المدينة الواقعي .ها أنا في ليفربول موطن البيتلز أقف في وسطها أتأمل أبنية قديمة تجاور معالم أثرية رائعة. كاتدرائيات ذات هندسة معمارية فريدة تأخذك إلى أمجاد الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس، ومتاجر تضج بالحركة التي لا تتوقف مثل نهر مرسي الذي تستلقي المدينة على ضفته اليمنى. لم يختلف المشهد كثيراً عن لندن، فهنا تبدو خيوط الشمس مترددة في اختراقها الضباب الذي يغلف المدينة، والسكان منهمكون بأعمالهم وكأنهم يسابقون الزمن الذي لا ينتظر.


ألبرت دوك  منطقة إنكليزية بلمسة البندقية الإيطالية

رحلة اكتشافي لليفبربول بدأت من ألبرت دوك. للوهلة الأولى ظننت أنني في مدينة البندقية فالمنطقة بنيت كلها على حوض مائي تتماوج فيه العبّارات في المياه وبين أبنيتها المتلاصقة ذات النمط الفيكتوري وقد ذهّبتها خيوط الشمس فزادتها هيبة وفخامة  كما أرادها الأمير ألبرت الذي افتتحها بنفسه عام 1846، فكانت النموذج الأول في العالم لبناء رصيف سفن مغلق.

يبدو على سكان ليفربول الفخر بمدينتهم، هذا ما استنتجته من النادل أثناء تناولي القهوة في أحد المقاهي المنتشرة على رصيف المنطقة. فقد قال لي إن هذه المقاهي والبوتيكات والنوادي الليلية والمتاحف كانت مخازن توضع فيها البضائع التي تحملها السفن، وقد أعيد ترميمها لتكون رمز الأمل لكل المدن البريطانية.

بعد تناولي القهوة بدأت جولتي في متحف ميرسيسايد البحري Mersyside Maritime Museum  الذي يحتضن ذاكرة نشاط المدينة البحري. وعلى مقربة من الرصيف يحتضن تايت ليفربول Tate Liverpool  المجموعة الوطنية للفن الحديث والمعاصر خارج لندن. أما متحف البيتلز كان في حاجة إلى ترميم. عندما دلفت إليه شعرت برهبة السنين والشهرة، خصوصاً عندما حاولت لمس بيانو جون لينون الذي عزف عليه أول نوتات أغنية Imagine. وفي الجهة الأخرى من ألبرت دوك يقع متحف حياة ليفربول Museum of Liverpool life  وهو خاص بفناني ميرسيسايد ولاعبي كرة القدم والصناعة المحلية والبرامج التلفزيونية.

أخذتني قدماي إلى شمال ألبرت دوك حيث توجد منطقة بيير هيد Pier Head التي شيدت عام 1760 ولا تزال حتى اليوم تلعب دورها كرصيف للعبّارات التي تعبر إلى بيركينهيد. تطغى على هذه المنطقة ثلاثة أبنية رئيسة تذكر بأمجاد ليفربول، وهي مبنى مرفأ ليفيربول الذي شيد عام 1907 ويتميز بقبته التي تذكر بكاتدرائية سانت بول الموجودة في لندن، ومبنى كيونارد الذي يعود إلى العام 1916 وقد شيد على النمط الإيطالي، ومبنى رويال ليفر المشهور بمجسمات طائر الليفر البرونزية، الذي أصبح شعار المدينة. ولهذا الطائر حكاية طريفة، فقد تحوّل خلال العصور إلى غاقّة وهو من فصيلة البجع، وتحوّلت زهرة الزنبق التي يحملها في منقاره إلى طحلب. لفتني جوهر الحكاية ولم أستطع إلا مقارنتها مع النظرية التطورية لداروين، فهنا التحوّل لم تتدخل فيه الطبيعة بل خيال الإنسان.

وفي وسط هذا الجمال الطبيعي والإنساني تنبّهت إلى أن المغيب قد اجتاح ثلث السماء، ولوّحت خيوط الشمس الأرجوانية الأبنية والمرفأ والبحر، وبدأت الأنوار الكهربائية بالانبلاج كأنها تعلن انكشاف وجه آخر لليفربول. قاومت تعب السفر وتآمرت مع جسدي على الوقت، وقررت التوجه إلى شارع ماثيو ستريت، فمكوثي في ليفربول لا يتعدى الثلاثة أيام وعليّ الاستفادة من كل لحظة أمضيها في هذه المدينة.


ماثيو ستريت شارع لا يزال يرقص على أنغام البيتلز

في ماثيو ستريت يبدو الهوس بفريق البيتلز في كل ركن ومقهى وملهى ليلي ورواق. ففي كهف كان مخزناً ذا نمط فيكتوري، يقع كافرن كلوب الذي استقبل بين عامي 1961 و1963 ،  292 حفلة للبيتلز أو كما يقول عنهم سكان المدينة " الشبان الأربعة في وسط الريح"، وشهد هذا الملهى أيضاً انطلاقة براين أبتسين العضو الخامس في الفريق. أعيد تشييد النادي عام 1984 وتملكه حالياً شركة ماجيكال ميستيري التي تنظّم رحلات محلية للسياح، يجولون خلالها على بيوت أفراد فريق البيتلز والمدارس التي تخرّجوا منها والبيوت التي ولدوا فيها دون إغفال أماكن مهمة مثل بيني لاين.

عرجت على مقهى ذا غريبس The Grapes الذي كان البيتلز يترددون إليه خلال حفلاتهم ليأخذوا قسطاً من الراحة، وقد استطاع هذا الملهى البقاء على سيرته الأولى على عكس الملاهي الأخرى مثل "رود أيستر بار" و"لينون بار" و"لوسي إن ذا ساكاي  كافيه" الذي لم يُبقِ من البيتلز سوى اسم الأغنية.


غاليري وولكر آرت ستريت هنا احتشدت كل مدارس الفن

في صباح اليوم التالي كنت على موعد مع وجه آخر لليفربول. تناولت فطوري بنهم إذ أنني نسيت أن أتناول الطعام اليوم الفائت... ربما أكثرت من تناول وجبات التاريخ والفن والموسيقى إلى حد التخمة! تركت الفندق وتوجهت إلى وولكر آرت غاليري.

في هذا الغاليري رحت أتأمل صورة جورج هاريسون العضو الخامس في فريق البيتيلز، عينان صافيتان وشعر طويل وابتسامة غامضة كأنه يتأمل أعمال قبرافائلية ( يطلق هذا الاسم على أعمال الرسامين الإنكليز الذين أرادوا تجديد الرسم بتقليد الرسامين الإيطاليين السابقين لرفائيل) المعروضة في الغاليري. وبين اللوحات الموجودة سافرت بين أعمال رائعة مثل حلم دانتي لروسيتي، لورينزو وإيزابيللا لميلي، أو الإدراك المتيقظ لهولمان هانت، وحملتني لوحة اللورد ليتون " بيرسي وأندروماد" إلى عالم الفن الفيكتوري بكل ألقه أما لوحة "And when did you last see your Father?  " لدابليو أف ييم فقد جعلتني أفكر لمَ أطلق هذا الرسام هذا الاسم على لوحته! فعلاً يحق لخيال الرسام ما لا يحق لغيره. في هذا الغاليري احتشدت أعمال لرسامين إيطاليين و انطباعيين وكذلك لرسامين معاصرين مثل ديفيد هوكناي.


لايم ستريت شارع يتباهى بالتاريخ

تركت الغاليري وسرت قدماً نحو شارع لايم ستريت أحد شوارع المدينة الرئيسية. ومرة أخرى الروائع تنتشر في كل الأماكن. ففي مقابل مبنى يعود إلى القرن التاسع عشر يقف مبنى سانت جورج واحد من أكثر المعالم فخامة. شيّد عام 1854 ويعتبر واحداً من أروع نماذج فن النيوكلاسيكي في العالم. فواجهته، الخارجية تعطي انطباعاً أنه معبد يوناني، بينما بني بلاطه وقاعته الداخلية على النمط الروماني.

وإذا كان مبني سانت جورج يجمع عالمين قديمين،  فإن الفنادق الموجودة في لايم ستريت تعكس روح القرن العشرين بكل أهوائه. ففندق أميركان بار American Bar  الذي نزل فيه الجنود الأميركيون خلال الحرب العالمية الثانية نموذج لأسلوب حياة جديد نشأ مع خريطة العالم الحديث، وعلى مسافة خطوات منه يقع فندق فاينز Vines  وهو نموذج رائع للقصور التي شيدت في بداية القرن العشرين، وفندق أدلفي الذي يستقبل النزلاء الذين يعبرون الأطلسي.

أخذتني ليفيربول إلى عالم يتمايل على إيقاعات الزمن الجميل. إنها المدينة التي عرفت كيف تكرم مبدعيها، وتبهر زوارها بسحرها الطبيعي والإنساني. غريبة ليفربول! إنها مدينة محيّرة جعلتني أطرح سؤالاً عن قصة العشق بينها وبين الفن. هل هي تعشق الفن، أم الفن عشقها؟ فكل شيء فيها ينطق فناً، الموسيقى والرسم والمعمار وحتى كرة القدم.