اسكوتلندا

سفرجل, سياحة, مصادر الطبيعة, اسكوتلندا, شركة لاند روفر

29 سبتمبر 2009

عندما تلقيت دعوة من شركة لاند روفر لزيارة اسكوتلندا، لم أتردد لحظة في قبولها رغم أن مدتها كانت يومًا ونصف اليوم. فزيارة اسكوتلندا تعني أن أكون ولو افتراضيًا وسط عدسة هوليوود التي برعت في عكس جمال هذه البلاد ذات الجبال التي تعانق أطراف السماء بكل درجات الأخضر وتموّجاته، يخترق صمتها المدوي وجمالها العجائبي صوت ميل غيبسون الهوليوودي الذي جسّد شخصية وليام والاس البطل الاسكوتلندي ورمز الاستقلال في فيلم بريف هارت Braveheart ، برؤية ملحمية  متكاملة الأبعاد من حيث الموسيقى والمعارك التي دارت في ربوع خضراء تظن أن الشاشة تلاعبت بألوانها لتخدر الحواس إلى درجة يعجز الخيال عن تصوّرها.

وفي التاريخ أن وليام والاس قائد اسكوتلندي تجرأ في القرن الثالث عشر على مواجهة فيالق جيش الملك إدوارد الأوّل الإنكليزي الذي حاول غزو اسكوتلندا. حملت هذه الصور الهوليوودية في حقيبة أفكاري وحلّقت بها إلى أدنبره عاصمة اسكوتلندا. العبور الأوّل كان عبر مطار شارل ديغول في باريس، ثم حلّقنا مرة أخرى نحو أدنبره.

وصلنا إلى مطار ادنبره الدولي وكان في انتظارنا ممثلو شركة لاند روفر. اخترقت بوابة المطار لأجد زخّات مطر تستقبلني. استغربت الأمر لأنني كنت أتوقع طقسًا صيفيًا أو خريفيًا في شهر آب/ أغسطس ولكن توقّعاتي كانت في غير محلها، فلسعات البرد رحّبت بي وكأنها تؤنبني لأنني لم أحضر بملابس سميكة، فقررت التظاهر بأنني لم أتأثر بها.

دارت بنا السيارة في قلب مدينة تضج بالأخضر إلى أن وصلنا إلى فندق داكوتا أندبره. لفتتني هندسة  الفندق الخارجية التي تشبه صندوقًا زجاجيًا أسود رمي وسط الأخضر، ليفاجئني باطنه بالأسلوب الهندسي الدافئ الذي يرتكز على النمط الاسكوتلندي بكل أبعاده.

استقبلنا مندوبو شركة لاند- روفر . وبعد التعرّف إلى باقي الفريق الصحافي، رحت أفتش في حقيبتي عن سترة سمكية تقيني من البرد ولكن عبثًا حاولت، فقلت لنفسي هذا قصاص من لا ينظر إلى حال الطقس في البلاد التي  يسافر إليها. بعد حوالي الساعتين تعلّمنا خلالهما طريقة قيادة سيارة اللاند- روفر L4  الجديدة والتقنيات الموجودة فيها، استقل كل اثنين سيارة. أردت اختبار القيادة في أدنبره فقد كان من الغريب عليّ أن أجلس يمينًا لأقود وأنا التي اعتادت القيادة يسارًا منذ أن كنت في السادسة عشرة. الغريب أنني استطعت أن أبرمج دماغي على هذا الأساس رغم أنف نظرية فرويد،  فلم يغلب عليّ  لاوعيي القيادي وسقطت مقولة «الطبع يغلب التطبّع».

من الجميل أن تبدأ مغامرة التعرّف إلى المدن وحدك ودليلك يكون فقط جهاز  Navigation السيارة الإلكتروني، يرشدك إلى الطريق وإذا أخطأت الاتجاه يجد لك الحل. خرجت من أندبره ورحت أقود السيارة وسط روابٍ سقطت ألوانها من السماء فبدت لي زخّات المطر التي كانت تثور أحيانًا فتشتد وتهدأ أخرى فتصبح لطيفة، وكأنها تنبثق من السحاب الذي يخلط الألوان في لوحته السماوية تبعًا لمزاجه ويقذفها إلى الأرض بدرجات من الأخضر واللون الترابي لا نهاية لها.

وصلت وباقي الفريق الصحافي إلى مطعم ميغجيت ريزرفوار Megget Reservoir الموجود في غابة أتريك ويقع غرب كابر كلوش و سانت ماري لوش وشرق خزان تالا. تخيّل أنك تتناول غداءك في مطعم يقبع في قلب خزان مائي سعته ٦٤ مليون طن من المياه يروي مدينة أندبره التي يبلغ عدد سكانها ٤٥٠٠٠٠ نسمة. لم يخف أحد من أعضاء الفريق الصحافي رهبته من المكان رغم أنه يقف فوق أرض صلبة. بعد الغداء نزلنا إلى الطبقة السفلية حيث قام مصمم اللاند - روفر من مجموعة L4 بشرح التصميم الجديد لهذه السيارة الرباعية الدفع وبعدها بدأت مغامرة قيادة الأوف رود.

لحسن حظي أن شريكي في القيادة كان اسكوتلنديًا وكان متسامحًا وقال لي: «يمكنك القيادة فقد أمضيت ثلاثين عامًا أقوم بقيادة الأوف رود، وهذه ستكون تجربتك الأولى فاستمتعي بها قدر ما تشائين».

بدأت المغامرة منذ اللحظة التي تركنا فيها ميغجيت ريزرفوار. وبدأت اختراق طرق إسفلتية ممهدة وسهلة تتناثر على أطرافها الروابي التي بدت لي أثناء استراقي النظر إليها وأنا أقود، أنها تراقبني وتتحداني ما إذا كنت سوف أنجح في عبور أروقة أدغالها أم لا! 

بعد قيادة استمرت حوالي الساعة التزمت خلالها قانون السرعة التي كانت تزيد أحيانًا إلى الحدود القصوى وتنخفض أحيانًا كثيرة تبعًا للوحات الموجودة على الطريق، وخوفًا من عدسة كاميرات السرعة المختبئة في صناديق يفاجئنا حضورها في طريق معزولة تتحكم في سباق أبدي بين الزمن والمسافة لتنتصر معادلتها.

 وصلنا إلى بلدة روكسبراغ  وكانت هادئة تنتشر فيها البيوت التي تتدلى من نوافذها وشرفاتها الصغيرة أصص الزهور بكل الألوان والأشكال، وكأنها جزء من الطبيعة. يغلب الطابع الباروكي والقوطي على الهندسة المعمارية حيث تنبثق من القصور الكبيرة والصغيرة أبراج يخترق سكونها هدير نهر تويد الذي يخترق البلدة. كل شيء كان هادئًا ما عدا أصوات الطبيعة حيث الماء والهواء يتلاعبان بفضاء المدينة، وكأنهما اختاراها موطنًا لهما. قطع دهشتي بجمال المدينة صوت شريكي في القيادة: «أرأيت كم هي جميلة روكسبراغ فلا عجب أن يتخذها الأمراء والدوَقة مقرهم الصيفي». بعدها توجّهنا إلى المنطقة التي تنطلق منها مغامرة الأوف رود، حيث كان في انتظارنا أحد مندوبي اللاند- روفر وشرح لنا كيف نجتاز نهر تويد ونصعد إلى الضفة الأخرى منه. كنت أظن أن اجتياز النهر بالسيارة مجرّد خدعة تقوم بها العدسة الهوليودية  أو التسويقية إلى أن ثبت لي عكس ذلك وجرّبتها بنفسي، فكانت أول الغيث.

بعد اجتياز النهر توجّهنا إلى قصر Floors Castle الذي يقع في قلب الوادي بين نهر تويد وقمم شيفيوت. بناه الدوق الأوّل لروكسبراغ عام ١٧٢١ وتحوّل إلى متحف في الحاضر رغم أن مالكيه ينظّمون احتفالاتهم الخاصة فيه.

توقفت السيارات أمام مدخل القصر الرئيسي ونزلنا لاستراحة شاي في الطبقة الأولى للقصر حيث عبّر بهو الدخول عن الروح الأرستقراطية لمالكي القصر وهم من سلالة دوق روكسبراغ الأوّل. تتوسط البهو طاولة مستديرة وعلّقت على جدرانه لوحات زيتية من أعمال الإيطالي بامبيو باتوني. يتألف القصر من ١٣٤ غرفة وجناحًا، ولكن لم يسمح لنا إلا بزيارة أجنحة الطبقة الأولى. البداية كانت في The Ante Room . يشير حجم هذه الغرفة الصغيرة والجدران الضخمة إلى أنها كانت واحدة من الأجزاء العتيقة للقصر. أعاد تصميمها وليام آدم على نمط جيورجي، تطل شرفاتها على مشهد بانورامي ومشهد نهر تويد ينساب عند أقدام هضاب شيفيو، وعلى الشجرة العملاقة الموجودة في متنزه القصر حيث قتل ملك اسكوتلندا عام ١٤٦٠.

كل شيء في الجناح لا يزال على سيرته الأولى ما عدا صور أصحاب القصر  من الجيل الجديد التي وضعت على الطاولة. ثم توجّهنا إلى غرفة الجلوس التي لا تقل روعة وحميمية عن جناح ذي آنت روم، وفي جناح الرسم لوحات زيتية عملاقة وأثاث فخم يشير إلى الذوق الرفيع للأجيال التي سكنت القصر. أما صالة الرقص فتخيّلت الدوقات يتمايلن فيها بفساتينهن المزركشة أثناء رقصة فالس اختلط فيها صوت الموسيقى بحفيف فساتينهن بخفر. من الجميل أن تتجول في عالم الطبقة المخملية، وتتقمص حياة الترف ولو للحظات.

بعد استراحة مخملية عدنا وركبنا سيارات اللاند - روفر لنخوض مغامرة ترف من نوع آخر في قلب طبيعة لا يمكن أحدًا أن ينافس ديكور مهندسها. اخترقت أروقة وحل ضيّقة كانت تفاجئني بحفر مائية في قاعها أحجار صخرية، أتخلص منها لأفاجأ بشجرة عملاقة تراقبني عند منعطفٍ قاسٍ عليّ صعوده... أنتهي من هذه المهمّة لأجد نفسي ملزمة عبور جسر حديدي متعرّج، والحمد لله أنه جعل للإنسان عقلاً يبتكر، فلولا التقنيات الحديثة التي تتوافر في اللاند روفر لما كان في إمكاني أن أعبر الممرات الضيقة التي تقف على حافة وادٍ أو أتجنب الصخور، إذ كان يكفيني أن انظر إلى الكاميرا الموجودة في اللوحة الأمامية للاند- روفر حتى أتجنب كل العوائق الطبيعية وأخطارها، وأضغط على أزرار التحكم حتى أغيّر أحوال السيارة تبعًا لهوى الطبيعة.

بعد اختراق الغابة التي بدت لي أنها جعلت كل عناصرها متأهبة لتتحداني وتتحدى كل بقية الفريق الصحافي المشارك في هذه المغامرة، ظننت أنني انتهيت وخرجت منتصرة على كل تقلبات الطبيعة وأهوائها فإذ بأحد العاملين في لاند- روفر يظهر عند مفترق طريق يوقفني ليخبرني عن المرحلة الأخيرة للمغامرة. فقال لي: «أترين ذاك الجسر؟ وكان شاهق الارتفاع، واسمه «روكسبراغ فيادََكتْ»، وهو أقدم جسر في راكسبراغ يربط المدينة القديمة بالحديثة، عليك تجاوزه «فقلت له، حسنًا إنه مجرّد جسر». ولكن عندما وصلت إلى مدخله، أوقفني مندوب آخر شارحًا لي كيف عليّ أن أصعد الجسر الحديدي الذي يقف على الجسر وهذا ما لم يكن عاديًا. مما يعني ارتفاعًا صناعيًا ضيقًا فوق ارتفاع طبيعي واسع.

أخيرًا انتهت المغامرة بسلام وعدت لأخترق طرقًا اسفلتية إلى أن وصلنا إلى فندق روكسبراغ حيث سأمضي ليلتي. كانت الشمس قد بدأت تغير ألوان الأفق الأخضر، لتتيح المجال لليل يتلاعب بأنظارنا وأوهامنا. فقد علّق أحد زملاء الرحلة بالقول إن الهدوء في هذه المنطقة مهيب خصوصًا في الليل إلى درجة أنك تسمع الأشباح، وبحسب أوهامه أنه سمعها في إحدى المرّات إلى درجة أنه طلب من صديقه أن يبيت معه في الغرفة خوفًا. أما أنا فقد تآمرت مع الليل وأوهامه وقلت له: «ربما لأن المنطقة فيها جداول وسواقي ماء أينما ذهبت، وعمومًا يقال إن الجن تحب السكن في المناطق التي يوجد فيها ماء»، فزدته رعبًا. 

ذهبت إلى غرفتي التي كانت في الطبقة الأرضية وفتحت نافذتيها المشرفتين على الحديقة رغم البرد، ورحت أتأمل الجمال المحتشد الذي ذكّرني بمدينة بادن- بادن في ألمانيا. شعرت بالرهبة وكما يقول المثل انقلب السحر على الساحر، فأنا التي كنت منذ لحظات أعزز رعب زميل الرحلة بدأت الأوهام تجتاحني. فهنا لا تسمع سوى أصوات الطبيعة وكأنها سمفونية يتبارى موسيقيوها في التلاعب بمشاعرنا الإنسانية، فقطرات المطر تتساقط بخفر على العشب الأخضر، والريح يراقص الشجر فيتحوّل حفيفه إلى نوتة موسيقية غريبة، جعلتني أحدّق إلى ظلال الشجر وأتخيّل أشكالاً غريبة ليست موجودة إلا في مخيّلتي، فما كان مني إلا أن أغلقت النافذة، وقطعت حبل الأوهام، وخرجت من الغرفة مسرعة لأتناول العشاء مع باقي الفريق الصحافي. غلبني النعاس وعدت إلى غرفتي بعدما جعلت وعيي ينتصر على غريزة الخوف وسطوة الأوهام، وغططت في نوم عميق لم أفق منه إلا عند ساعات الصباح عندما بدأ  المطر يطرق زجاج النافذتين.

تكرر المشهد الجمالي فقررت الذهاب إلى الحديقة التي شغلتني أخيلتها الليلية. كان الهواء نقيًا إلى درجة شعرت فيها بأنني وسط عالم عذري لم يسمح لتكنولوجيا العصر بأن تجتاحه.

تناولت الفطور مع الفريق الصحافي، وعدنا واستقلينا سيارات الرانج روفر لنخوض مغامرة أخرى من مغامرات الأوف رود. وشريكي للمرة الثانية يسمح لي بالقيادة. تكررت المشاهد الساحرة إلى أن وصلنا إلى مركز لشركة لاند- روفر رمي بين أحضان الطبيعة. وبعدما شرح لنا المسؤول في الشركة عن التقنيات الجديدة المتوافرة في سيارات الرانج روفر، كان علينا تجربتها. المغامرة الأولى هي قياس السرعة القصوى والتوقف المفاجئ، إذ كان على كل واحد أن يصل إلى سرعة ١٦٧ كيلومترًا خلال دقيقة ثم التوقف فجأة. الحقيقة أني لم أجرّبها إذ يكفي أن عشت التجربة مع المدرّب إلى درجة شعرت فيها بأن الأدرنلين قد وصل إلى أقصى حدوده. غريب كيف أن غريزة الخوف أحيانًا تجعلنا نستسلم لها رغم أننا ندرك أنه لن يصيبنا مكروه، ولكنه الخوف! وبعدها كان علينا تجربة السرعة خلال الدوران وكان فيها تحدٍ جميلٍ خضته.

وبعد تجارب السرعة عدنا إلى مغامرة الأوف رود بكل أخطارها وتحدياتها، فتخيّل أن عليك أن تنزل بسيارة رباعية الدفع في حافة من دون أن تهوى. كنت سأتخلى عن الأمر خصوصًا حين رأيت عجلتي السيارة الخلفيتين التي كانت أمامي قد صارتا في الهواء، وكل التركيز على العجلتين الأماميتين، ولكن لم أسمح لخوفي أن ينتصر عليّ وقلت في نفسي إن القيمين لو لم يكونوا متأكدين من أنه لن يصاب أحد منا بمكروه لما نظموا هذا النوع من الرياضات. كما أن شريكي في القيادة شجعني على خوض هذه التجربة لأني وبحسب رأيه سائقة ماهرة، رغم أنني امسك المقود بيد واحدة.  فهو في الأصل أستاذ تعليم قيادة. وبعدما انتهينا من هذه المغامرة بدأنا الصعود نحو جبال يطغى عليها اللون البنفسجي بكل درجاته. وصلنا إلى كوخ مرمي عند قمة الجبل وكان البرد قارسًا، فدخلنا إليه لتناول الغداء، وكما يقول المثل «الدفا عفا ولو في عز الصيف»، فكيف إذا كنت في بلاد لا تعرف الصيف؟

تناولنا الغداء وصار الجميع يتحدثون عن هذه المغامرة التي لا يمكن أحدًا أن ينساها. أما أنا فكان لدي سؤال فضولي منذ اللحظة الأولى التي وصلت فيها إلى اسكوتلندا، وهو لماذا تلفظ أسماء أدنبره Edinburgh  وروكسبراغ Roxburgh  وغيرهما من المدن بخلاف ما تكتب؟ طرحته على الشابة الاسكوتلندية التي كانت برفقتي فكان الجواب: «هكذا. ربما لنتميز عن الإنكليز». وسألتها لمَ لم أرَ رجالاً يرتدون الزي الاسكوتلندي التقليد أي التنورة فضحكت وقالت:  يرتدونه في المناسبات التقليدية وفي المهرجانات الفولكلورية، وليس كما ترين في أفلام هوليوود».

انتهينا من الغداء وكان علينا العودة إلى مطار أدنبره.  خلال خمسين دقيقة تكررت المشاهد وهذه المرّة لم أقد السيارة بل تركت المهمة لشريكي في القيادة الذي أراد ذلك وأنا لم أعترض لأنني أردت أن أودّع اسكوتلندا وأخزن في ذاكرتي صورًا لطبيعة أقل ما يقال عنها إنها فردوس أرضي سقط سهوًا من حساب الزمن الأرضي فانبلج سحرًا ...