بيترسبورغ

إيطاليا, منزل ريفي, لوحة / لوحات فنية, تاريخ, سفرجل, سياحة, حميد القصري, متحف ميتروبوليتان النيويوركي, الهندسة الداخلية, بيترسبورغ, الإمبراطورية الروسية, الثورة البولشفية, بطرس الكبير, أوروبا, نهر نيفا, المباني التاريخية, بحر البلطيق, موسكو, ألكسندر

29 أكتوبر 2009

بيترسبورغ أو بطرسبرغ عاصمة قياصرة الإمبراطورية الروسية تشاطر نهر نيفا الذي يخترقها تاريخاً قديماً، يقرآن أوراقه كلّما هبّت ريح الزمان وقلّبت فيها، غير آبهين بتبدّل أمزجته، يحفران في تجاعيده قصصاً جميلة تمنح كهولة الزمن إكسير الشباب ليجدد رونق المدينة وسحرها مع كل بزوغ لخيوط الشمس الأرجوانية وهي تجتاح القباب المذهبة، فتتحوّل المدينة إلى متحف لا يخشى على كنوزه عوادي الزمن، بل يعرضها بأبهة القياصرة وترف الحياة المخملية التي انفلتت من سيرورة التاريخ، متحدية شيوعية الثورة البولشفية ورمادية تقشفها، لتبقى ساكنة في قصور باذخة الفن متناثرة في كل أرجاء بيترسبورغ.

أسس بيترسبورغ بطرس الكبير لتكون نافذة روسيا نحو الغرب، فأرادها أن تكون النموذج الأوروبي لروسيا، مما يفسر شبهها الكبير ببندقية إيطاليا من حيث الجسور المعلّقة فوق نهر نيفا والقنوات المائية التي تتسرب بين المباني التاريخية...عرفت باسم بترو غراد بين عامي ١٩١٤ و ١٩٢٤ ولنينغراد بين عامي ١٩٢٤ و ١٩٩١. كما أطلق عليها سكان المدينة اسم بيتر، وتعتبر عاصمة الشمال بالنسبة إلى الروس و يطلقون عليها أيضاً اسم بندقية الشمال.  تقوم بيترسبورغ على دلتا نهر نيفا في عمق خليج فنلندا عند بحر البلطيق، تبلغ مساحتها ٦٠٦ كيلومترات مربّعة تعوم ١٠ في المئة منها على المياه، تتألف المدينة من ٤٣ جزيرة، وتنخفض عن مستوى بحر البلطيق من مترين إلى أربعة.

وإذا كانت موسكو عاصمة روسيا الأكثر شرقية في أوروبا فإن بيترسبورغ المدينة الأكثر أوروبية في روسيا. وإذا كانت الأولى تعرف كيف تدهش زائرها بروائعها الفنية فإن الثانية تعرف كيف تجعله شغوفاً بها إلى حد الخدر. فلا عجب أن تكون بيترسبورغ المدينة التي تفتقت فيها قريحة الشاعر ألكسندر بوشكين والتي اختار العيش فيها حتى مماته رغم أنه وُلد في موسكو. وهي المدينة التي تبدأ فيها أحداث رواية «الحرب والسلم»، إحدى روائع الأدب الروسي لـ ليو تولستوي، حيث القلق من اجتياح نابليون بونابرت لأوروبا  في أروقة قصور بيترسبورغ يوم كانت عاصمة الإمبراطورية الروسية، لتنتقل الأحداث إلى موسكو حيث اندلعت الشرارة الأولى للثورة. وهي المدينة التي تعرّف فيها فيودور دوستويفسكي إلى آداب عصر النهضة الأوروبية فأبدع في روايته "الأخوة كارمازوف". والمفارقة أن جميع هؤلاء الأدباء ولدوا في موسكو وعاشوا في بيترسبورغ وماتوا فيها، فكأنما المدينتان تتنافسان بصمت يشبه جدل التاريخ الروسي.

ومهما يكن من أحداث تاريخية وأدبية وشعرية كتبتها المدينتان في ثنايا تاريخهما، فإن بيترسبورغ مدينة تفور جمالا، يحوّل برد الشمال الأوروبي إلى دفء يسكن بين أبنيتها التي جاءت على النمط الفن القوطي، بأبهته وأروقة عيشه المخملي حيث ثرثرة الأميرات تختلط بحفيف فساتينهن، وقلق الأمراء والضباط من أحلام بونابرت التوسعية، وموسيقى «كسّارة البندق» لتشايكوفسكي تصدح في فضاء الأوبرا لتتمايل عليها أجساد رشيقة، تكسر رتابة الزمن الشيوعي.

ساحة دفورتسوفايا
خلال قرنين كانت الإمبراطورية الروسية المترامية الأطراف تُحكم من مربع تبلغ مساحته نصف كيلومتر، بين ساحة ديكابريستوف وساحة دفورتسوفايا حيث تمتد جادة نفيسكي.

وساحة دفورتسوفايا هي الشاهد الصامت على الثورة التي قامت بين عامي  ١٩٠٥ و١٩١٧ والتظاهرات التي نادت بالديموقراطية. يشرف على الساحة قصر الشتاء ذو الظلال الخضراء والبيضاء، وهو تحفة المهندس المعماري الإيطالي راستريللي الذي أبرز روح فن الروكوكو بأعمدته الكثيرة ومجسماته الضخمة. أما الهندسة الداخلية للقصر فقد جاءت على النمط الكلاسيكي نزولاً عند رغبة كاثرين الثانية والأباطرة الذين تلوها، فقد كان القصر مركز إقامتهم بين عامي ١٧٦٢ و ١٩١٧، ويضم متحفاً مؤلفاً من ثلاثة مبانٍ هي:المنزل الريفي الكبير والمنزل الريفي الصغير ومسرح، وتضم كلّها مجموعة رائعة من اللوحات. وبدوره يضم المتحف أجنحة تعرض لحقبة ما قبل التاريخ، ومجموعات من الفن اليوناني- الروماني، ومصر الفرعونية، وروسيا الشرقية. وعند أقصى الساحة يقف نشاب إمارة البحر المذهّب الذي كان سياج البحرية الروسية بين عامي ١٧١١ و ١٩١٧. واللافت أنه رغم صلابة مظهره فهو مصنوع من الخشب وكاد يصبح منخوراً تماماً قبل إعادة ترميمه عام ١٩٩٦. وبالقرب منه مبنى المدرسة البحرية الذي شُيّد على النمط النيوكلاسيكي بين عام ١٨٠٦ و ١٨٢٣. كما تضم الساحة كاتدرائية القديس إسحاق التي تتميز بقبتها المذهبة والتي صممها المهندس الفرنسي مونتفران.

جادة نيفسكي
تعتبر جادة نفيسكي شانزيليزيه بيترسبورغ. فهذا الشريان الرحب تصطف على طرفيه المباني الفخمة على امتداد أربعة كيلومترات، من إمارة البحر إلى دير ألكسندر نيفسكي وعلى جرف نهر نيفا. وتشكل الجادة عصب بيترسبورغ الحيوي، خصوصاً خلال أمسيات الصيف الفضية. ففي هذه الجادة سكن عظماء روسيا من أدباء وموسيقيين أمثال الكاتبين غوغول ودوستويفسكي والموسيقيين تشايكوفسكي وريمسكي كورساكوف.

يقال «عندما تتنزه في جادة كيفينسكي ارفع رأسك كي لا تفوتك تفاصيل الهندسة المعمارية». بداية من كاتدرائية كازان التي شيدت على نمط الفن المعاصر، وأقواس المخازن الكبرى غوستيني دفور، والساحة الواسعة حيث يقف مجسم كاثرين الثانية محاطة بعشاقها. وتتجاور عند طرفي الجادة البوتيكات التي جاءت هندستها الداخلية على نمط فن قرن التاسع عشر و الفن المعاصر. أما بلاط سان بيترسبورغ فيجعلك تتصور غياب العدالة الاجتماعية بين الطبقة الأرستقراطية و عامة الشعب، مما قاد إلى الثورة البولشفية عام ١٩١٧.

وعند أقصى جادة نيفسكي يقع قصر بيلوسيلسكي- بيلوزرسكي الذي يعود إلى القرن التاسع عشر والذي أصبح مركز الحزب الشيوعي بعد الثورة البولشفية إلى أن سقطت الشيوعية عام ١٩٩١. أما قصر ستروغانوف الذي صممه عام ١٧٥٤  راستيللي المهندس المفضل عند الإمبراطورة أليزابيت والتي يقال إنه كان خليلها، فقد جاءت واجهته الخارجية على النمط الباروكي وطلي باللونين الأخضر والأبيض، ويضم القصر مجموعة من اللوحات والأيقونات النادرة.

حديقة القصر الصيفي
قرب جادة نيفسكي وبمحاذاة نهر نيفا يقع متنزه استوحي من حدائق قصر فرساي الغنّاء. ففي القرن التاسع عشر كان أبناء الطبقة الأرستقراطية في بيتر سبورغ يحبون التنزه وسط نوافيره ومجسماته الموزعة في شكل متناسق. وعند أقصى المتنزه يقع القصر الصيفي الذي شيد من أجل بطرس الكبير، وكان أول قصر في بيتر سبورغ.

جزيرة فاسيليفسكي
عند فم نهر نيفا تعوم كبرى جزر بيترسبورغ حيث تحتشد المواقع الرئيسة عند الجهة المشرقية مقابل إمارة البحر.تحتوي الجزيرة على عدد من المتاحف منها متحف البحرية الحربي، ومتحف الحيوان ومتحف أكاديمية الفنون الجميل. وتنتشر في الجزيرة أعمدة مزدانة بأشكال على طرف حيزومي تخليداً للنصر في المواقع البحرية، ومنارات مزركشة بمقدّمات السفن. وتحوّل قصر مانشيكوف الذي شيد عام ١٧٠٧ وعاش فيه حاكم بيتر سبورغ، إلى متحف يضم أثاثاً يعود إلى القرن الثامن عشر.كل شيء في بيترسبورغ يحكي تاريخ عظمة القياصرة متجاهلاً عقوداً من الشيوعية التي لم تتمكن من محو ذاكرة التاريخ، بل وقفت عاجزة أمام سحر المدينة الطبيعي والتاريخي.

نعم أحبك أيتها المدينة وليدة الحجارة
أحب نهرك الكبير المثلّم
أحب قبابك المذهّبة حيث تبني الطيور أعشاشها
ولكن قبل كل شيء أحب، يا مدينة الأمل،
لياليك البيضاء التي تنبثق منها الشفافية المرهفة
ألكسندر بوشكين

من قصيدة «الفارس البرونزي»