إسبانيا البلاد التي تلهب مدنها ذكريات عالم أندلسي

فرنسا, إسبانيا, حميد القصري, بلاد الأندلس, البحر الأبيض المتوسط, كوستو برشلونة, مدريد

10 أغسطس 2010

إسبانيا. المملكة التي تسكن في صفحات تاريخها ذكريات أندلس العرب. تتمايل بموسيقاها وألوانها وترنم موشحًا أندلسيًا لـ لسان الدين بن الخطيب: «جادك الغيث إذا الغيث همى يــا زمــان الـوصل بالأندلـس لــم يـكـن وصلك إلا حـلـمــا في الكرى أو خلسة المختلس».

وإسبانيا اليوم أندلس الماضي، تتقد فرحًا من جذوة السعادة بعدما رقص فريقها في كرة القدم رقصة فلامنكو انتهت بتسجيل هدف تاريخي لينال كأس العالم في بطولة كرة القدم 2010 ، فلم يكن حلمًا في الكرى، أو خلسة، بل كرة عانقت الشباك  فتعالت في فضاءات مدنها قهقهات صنوج خشب تلاعبت بها أنامل سمراء إسبانية أنهت رقصتها بصيحة فخر «أولليه»!
و«أولليه» النصر الأسبانية وصلت أصداؤها إلى البرتغال التي تحدّها من الغرب، وفرنسا وأندورا  اللتين تحدانها من الشمال الشرقي، لتحلّق فوق بحري الأبيض المتوسط والباليار من الشرق والجنوب حيث تسبح جزر البليار، والمحيط الأطلسي من الشمال فتبدو جزر الكناري التابعة لأسبانيا مجموعة حوريات يتبادلن أطراف حديث تستقطعه ثرثرة مياه فيروزية لا تخشى الذوبان في شطآن لؤلؤية.
ومدن أسبانيا  لا تمل نسج حكايات أسرار الأندلس، بل تنثرها تارة وتدسها بين أروقة التاريخ تارة أخرى. وكأني بها متشبثة بفسيفساء من الحضارات والجمال الطبيعي.

فتبدو باسكية الهوى( نسبة إلى بلاد الباسك بين فرنسا وأسبانيا)، متمسكة بإرثها الأندلسي العربي يفصلها عن شمال أفريقيا والمغرب العربي مضيق جبل طارق، ودينامكية كاتالونيا، وتضج جمالاً طبيعيًا خصبًا في غاليسا و قمم البرينيه التي تربط أواصرها بالقارة الأوروبية.

مدريد العاصمة التي لا تنام
ربما لا تملك مدريد عاصمة أسبانيا إرث الفن المعماري التي تمتلكه برشلونة، لكنها تعوّض عن هذا النقص بامتلاكها المتاحف الاستثنائية والمتنزهات الرائعة والحياة الصاخبة. فهي مدينة لا تغلق مروحتها الأسبانية بل تبقيها مفتوحة تستعرض ألوانها المعطّرة بعبق الفن والتاريخ.
تعتبر بورتا دل سول Puerta del Sol  بوابة الدخول إلى عالم مدريد، فهذه الساحة التي لا تنام الحركة فيها على مدار اليوم تخترقها خطوط حافلات تنطلق نحو ضواحي المدينة. بينما القسم السياحي لمدريد يمتد بين كامبو دول مورو Campo del Moro  شمالاً ومتنزه دل بوين ريتيرو del Buen Retiro  شرقًا. وإذا كانت غران فيا Gran Via  الشريان الأكثر حيوية في مدريد، فإن ساحة مايور mayor تشكّل القلب النابض للمدينة. وعلى زائر المدينة ألا يفوّت الولوج إلى عالم الرسم الأسباني والفلمنكي والإيطالي بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر القابع في متحف برادو Prado الذي يضم تحف الأعمال الفنية العائدة لغويا وفيلاسكويز.

أما المجموعات التي يضمّها متحف تيسن بورنيميزسا   Thyssen-Bornemisza فتعكس شغف الفن، وفي متحف النحت التجريدي المنفتح على السماء كل أعمال النحاتين الأسبان. وتجاور هذه المتاحف حديقة عالم النبات الملكية التي توفر جوًا من الهدوء الجميل وسط عالم أسبانيا العصري. ولمحبي مصارعة الثيران في إمكانهم   مشاهدتها في ساحة توروس مونومانتال دو لاس فينتاس  Plaza de Toros Monumental de las Ventas. أما هواة كرة القدم فإنهم سيستمتعون بمشاهدة مباريات ريال مدريد أو أتلتيكو مدريد. وفي أيام الآحاد يجد هواة القطع القديمة والأنتيك ما يحلمون به في سوق البرغوت في أل راستو El rasto.

برشلونة حاضنة الفن الأسباني
عند موقع فريد في الشمال الشرقي لساحل شبه جزيرة أيبيريا، وبين لازودرية البحر الأبيض المتوسط وخضرة جبل تبيدابو، تقبع برشلونة ثانية كبرى مدن إسبانيا. تبدأ زيارة برشلونة في منطقة لا رامبلا، المؤلفة من خمسة شوارع هي: رامبلا دو كانالوتس، رامبلا دالس إيستوديس، رامبلا دو سان جوزيف، مملكة الزهور، ممر الطيور. فهنا يكون زائر المدينة على موعد مع السحر، يتسكّع تحت شجر الدلب، يغوص في عالم فنانين تستوقفه منحوتاتهم المتناثرة بفوضى جميلة، ويطرب لزقزقة الطيور تصدح في الأجواء ويتعطر بعبق الورود.

وللورد قصة جميلة في برشلونة، ففي اليوم الثالث والعشرين من نيسان/ أبريل من كل سنة يحتفل سكان المدينة من الفجر إلى غروب الشمس بهذا اليوم. وتقول الأسطورة إن القديس جورج قتل التنين الذي أراد التهام أميرة جنوب برشلونة، ومن دماء التنين زرع حديقة ورود أهدى أجملها إلى الأميرة، ومنذ ذلك الوقت أصبح رجال المدينة يقدمون الورود إلى نسائهم في هذا اليوم من السنة.
يأخذ بالو دو لا فيرينا ، وهو قصر يعود إلى القرن الثامن عشر، الزائر إلى عالم من الخيال حيث الإبداع الفني لا حدود له. شيّد  القصر على النمط الفن الروكوكي الذي اشتهر بالزخرفة المفرطة. مقدّمة رائعة لقراءة مدينة تخفي بين أروقتها أسراراً لا تنتهي.
عند زاوية شارع في كازا ميلا يقع مبنى ضخم، يطلق عليه اسم لا بيدريرا La pedrera وتعني المتحجر. و سبب هذه التسمية، أنه يشبه الجرف الصخري. يعكس هذا المبنى عبقرية غاودي الذي كانت الطبيعة مصدر إلهامه فجسّد أمواج المحيط والجبال والأشجار حتى السحب التي تجتاح القمم الجبلية في أعمال رائعة يعجز المرء عن وصفها.
تتميز حجارة واجهات المبنى باللون الشاحب يخترقه اللون الداكن للحديد، ونحتت في شكل هندسي متناقض يجمع بين التقوّسات والتجويفات والفجوات.

وفي  كازا باتيللو Casa Batllo، وتعني بيت باتيللو، تتبارى الألوان في استعراض  جمالها في شارع 43 باسيغ دو غراسيا No43 Passeig de gracia . قام أنطوني غاودي بترميم هذا المبنى بين عامي 1904 و1906، بتكليف من صاحب مصنع النسيج جوزيف باتلو كازانوفا.
تعكس الهندسة المعمارية للمبنى مذهب غاودي الفني الذي جمع بين التجريد والشغف بالطبيعة، ويبدو ذلك واضحاً على واجهته الخارجية التي زُيّنت بالسيراميك المزخرف بالألوان الصاخبة والهادئة، مما يعكس إحساساً بالإشراق لا حدود له.
لا يقل داخل المبني سحراً عن خارجه. فالسلالم اللولبية تحيط بها نوافذ يتغيّر إيقاع لونها الأزرق بتناغم مع تدرّجات ألوان رقاقات السيراميك. وفي الطبقة الأولى تسكن روائع غاودي للهندسة الداخلية. ويضم الجناح مدفأة رائعة وأثاثاً غريب الأشكال مستوحى من وجه المرأة.
ولهواة التسوّق تعتبر برشلونة فردوسهم، ففي جميع شوارعها تنتشر البوتيكات بشكل كبير. ففي ساحة غلوريس Glories يوجد سوق البرغوت Els Encants vells حيث تعرض الكثير من الغرائب والقطع الفريدة، أما محبو القطع القديمة فيفضّلون ميركات غوتيك Mercat Gotic في ساحة نوفا Nova . ويقام السبت والأحد في ساحة سان جوزيف أوريول Sant Josep Oriol سوق الفن والأعمال الحرفية.

غرناطة مدينة متشبثة برونقها العربي
أينما جلت في غرناطة تجد للعرب آثاراً تحدّثك عن آخر ملوكهم، عن مجدهم وانهيارهم، فهنا لا تلملم بقاياهم من ذاكرة التاريخ، بل تراها حاضرة في كل ركن من مدينة تريد الاحتفاظ برونقها الذي عرفته خلال الحكم الأموي لتبقى أجمل مدن أسبانيا، والشاهدة على روعة الفن المعماري الإسلامي في أوروبا الذي يدهش كل من يزورالمدينة. فصحون الدور العربية وحدائقها الغناء توقظ إبداع أدب غني قد يقف عاجزًا عن وصف وجودها الواقعي. لا تملك وأنت تجول بين أجنحة قصر الحمراء إلا أن ترنم موشحًا أندلسيًا «في نرجس الأحداق، وسوسن الأجياد، نبت الهوى مغروس، بين القنا المياد- وفي نقا الكافور، والمندل الرطب، والهودج المزرور، بالوشى والعَصبِ ..».
 انتهى بناء قصر الحمراء في عصر بني الأحمر الذين حكموا غرناطة بعد سقوط دولة الموحدين.
وهو من أهم المعالم السياحية في إسبانيا، تعود بداية تشييده إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وترجع بعض أجزائه إلى القرن الرابع عشر.
ومن سمات العمارة الإسلامية الواضحة في أبنية القصر، استخدام العناصر الزخرفية الرقيقة في تنظيمات هندسية كزخارف السجاد، وكتابة الآيات القرآنية والأدعية، وبعض المدائح والأوصاف من نظم الشعراء كابن زمرك، وتحيط بها زخارف من الجص الملوّن الذي يكسو الجدران، وبلاط القيشاني الملون ذو النقوش الهندسية التي يغطّي الأجزاء السفلية من الجدران.

ويعتبر جناح الأسود أشهر أجنحة قصر الحمراء. أنشأه السلطان محمد الغني بالله عام1391. وهو بهو مستطيل الشكل تحيطه من الجهات الأربع أروقة ذات عقود يحملها 124 عموداً من الرخام الأبيض، صغيرة الحجم وعليها أربع قباب مضلّعة. في وسط البهو نافورة الأسود، يقف على حوضها المرمري المستدير اثنا عشر أسداً من الرخام، تخرج المياه من أفواهها بحسب ساعات النهار والليل.

وقد تعطلت مخارج المياه في هذه البركة حين حاول الاسبان التعرف على سر انتظام تدفق المياه بالوتيرة الزمنية التي كانت عليها. وتوفر أبراج القصر ألكازابا Alcazaba  مشهدًا يحبس الأنفاس لمدينة غرناطة. وفي مقابل القصر تقع حدائق «جنّة الخليفة» Generalife الغناء. ويطيب للزائر التجوال في فضاء العالم الإسلامي في أزقة حي البائسين Albaicin. أما متعة الاسترخاء والترف فتكون في حمامات العرب Banos Arabes.
هكذا هي مدن أسبانيا، رغم أنها عادت إلى أوروبيّتها منذ قرون، بقيت أندلسية الهوى، وكأني بها تقول لكل من يزورها: العرب كانوا هنا.