سلوفينيا بلاد جميلة خرجت من كواليس...
عام 1991 نالت سلوفينيا استقلالها وأصبحت دولة مستقلة عن يوغوسلافيا، فكان الوفاء لشاعرها فرانس بريسيرن وحُدّد عيد الثقافة السلوفانية أو عيد بريسيرن في 8 شباط/فبراير في ذكرى وفاته، وتحوّل المقطع السابع من قصيدته «النخب» Toast بعد حوالى قرنين نشيدًا وطنيًا.
هكذا قررت سلوفينيا أن تنهي العقد الأخير من القرن العشرين فاخترقت السور الشيوعي الفولاذي لتخرج من كواليس العالم الأوروبي وتكشف بحريّة عن جمال طبيعي تكلّله الهضاب وتغطي وجهه الغابات، غير آبهة بروائع جاراتها النمسا شمالاً، وكرواتيا جنوبًا، وهنغاريا شرقًا، وإيطاليا التي تشاركها حدودها الغربية.
وإذا كانت جبال الألب الجوليانية (تبعًا ليوليوس قيصر) أو كما تعرف بتريغلاف (أي ثلاثة رؤوس) التي تحيط البلاد تجعل زائرها يظن أنه في بافاريا الألمانية، فيما يطغى المناخ الإيطالي لشواطئ الساحل الأدرياتكي عند حدودها مع إيطاليا، فإن عددًا من مدن سلوفينيا لا يزال يحتفظ ببصمات الهابسبورغ وجمهورية البندقية، لا سيّما ليوبليانا التي اختصرت كل السحر السلافي.
ليوبليانا العاصمة
ليوبليانا عاصمة متشبثة بشبابها ونضارتها، فالتاريخ فيها يعانق الحاضر ويتبادل معه إدهاش زوّارها، يؤازرهما ترف الطبيعة المغلّفة بالألوان الخلابة إلى درجة تظن أنك في مدينة إفتراضية تقرأ عنها في إحدى قصص الأطفال، لا عاصمة لبلاد دفعت على مدى قرون أثمان توقها إلى الحرّية.
فعلى عكس ما هو متعارف عليه في عواصم العالم حيث تعمّ الفوضى في بعض تفاصيلها، وتغريك بضجيجها وازدحامها، تنفرد ليوبليانا بهدوئها ونظافتها رغم أنها تشبه براغ إلى حد كبير بهندستها المعمارية وشوارعها التاريخية الممتدة على طرفي نهر ليوبليانكا الذي يخترقها بصمت جميل تتمايل على وجه مياهه بفخر المباني التاريخية لتحوّله إلى لوحة مائية تتماوج بألوان تتبدّل درجاتها مع تبدّل الفصول.
تحتفظ أماكن عدة في ليوبليانا هذه المدينة الرومانية القديمة التي كانت تعرف باسم أيمونا، ببصمات تاريخها اللاتيني. فالهابسبورغ الذين سيطروا عليها في القرن الرابع عشر، قد بنوا كنائس بألوان شاحبة منحت المدينة اسمها ليوبليانا أي البيضاء.
وبين عامي 1809 و1814 أصبحت عاصمة المقاطعات الإليرية (تبعًا للشعب الإليري القديم) التي سمحت لنابليون بعزل الإمبراطورية النمسا-هنغارية عن البحر الأدرياتيكي، ورغم الألوان النمسوية التي حملتها سيطرة الهابسبورغ فإن العاصمة احتفظت بهواها السلافي بشكل لافت.
تندس في شوارع المدينة العتيقة والضيّقة مقاهي الرصيف وكنائس باروكية وجسور فريدة في هندستها معلّقة فوق نهر ليوبليانكا، وكأن التاريخ العريق للمدينة لم يستسلم لتقشف النظام الشيوعي، وعاند زمانه وبقي على أبهّته يفاخر بروائعه المتناثرة بفوضى أنيقة تعكس توق السلوفينيين إلى الحرية .
تنتشر غالبية المواقع التاريخية على طول ضفاف نهر ليوبليانكا الذي يخترق المدينة بصمت جميل يشبهها.
ففي الجهة الجنوبية الغربية متحف البلدية الذي يحتفظ بمجموعة فنية وأثاث روماني ونموذج عن المدينة خلال حقبة إيمونا.
وفي الشمال الغربي يحتفظ المتحف الوطني بمعروضات آركيولوجية وإثنية تعكس صفات الشعوب والتاريخ الطبيعي، فيما تعتبر جرّة تعود إلى القرن السادس قبل الميلاد نجمة المعروضات.
وفي الجهة المقابلة يقع متحف الفن المعاصر الذي يستقبل مرة كل سنتين المعرض الدولي للفن الغرافيكي.
وليس أجمل من أن ترتاد أحد المقاهي المنتشرة على ضفتي النهر بأسلوب أنيق وتناول الطعام أو ارتشاف قهوة بعد يوم طويل تمضيه في التسوّق في وسط المدينة التجاري حيث البوتيكات التي تعرض لأهم دور الأزياء العالمية وتجاورها البوتيكات التي تعرض لمصممين محليين، والمتاجر التي تبيع التذكارات والهدايا الفريدة من نوعها.
كما يمكن لزائر ليوبليانا خلال فترة الصيف زيارة السوق الفني الذي يقام كل سبت على ضفة نهر ليوبليانكا في وسط المدينة التجاري. فهنا يعرض الرسامون لوحاتهم الجميلة باختلاف مذاهبهم الفنية، تنافسهم أعمال الحرفيين الفخارية والمشغولات اليدوية التقليدية إضافة إلى المجوهرات السلوفينية.
أما يوم الأحد فهو مخصص لسوق الأنتيكا حيث يمكن هواة هذا النوع من التسوّق تحقيق شغفهم والحصول على مجموعات أصلية ذات قيمة تاريخية بأسعار مغرية.
رغم هدوء ليوبليانا فإن متنزّه تيفولي المنبسط شمال- غرب المدينة الذي يضم ملاعب كرة المضرب وأحواض سباحة وصالة بولينغ وحلبة للتزحلق، يعتبر ذروة الهدوء لمن يريد الاسترخاء والإستمتاع بمشهد جبال الألب الجوليانية وهي تغازل المدينة من بعيد بنشيدها الوطني:
فلتحيَ كل الشعوب
التي تتوق إلى رؤية اليوم العظيم،
حين تتبع الشمس مجراها،
حين ينتهي النزاع في العالم،
حين يصبح كل مواطن حرًا في النهاية،
ولا يعود هناك عدو، وإنما جار على الحدود.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1077 | آب 2024