نضال الأشقر 'الواويّة'

نضال الأشقر, مسرح, لبنان, شجاعة, حرب

03 يناير 2014

تحوّل «الربيع العربي» خريفاً مخيفاً مع الأصوات المدوية: أناشيد ونياشين وتكفير وتكفين...  لبنان في موقف الشاهد المتورّط، موقف عادت معه نضال الأشقر إلى مسرح كوميديا سوداء وموجعة عمن تتصلّح أحوالها مع الدمار والدماء (65 دقيقة).
«لا نظام دون حرب»، تقول نضال بدور «الواوية» وتقوم لكسب رزقها من خسارة الأوطان في المسرحية المقتبسة عن كلاسيكية الألماني برتولت بريشت Mutter Courage und ihre Kinder «الأم الشجاعة وأولادها» (1939) تحت إدارة الـ«ديداسكالوس» ناجي صوراتي أو مُبتكر «مسرح الهاوية».
هي الأم التي تحمي أطفالها من الحرب وعبرها، فاستمرارها يؤمّن حياتها كتاجرة. 


توصيف مكثف للحكاية العربية العنترية

تؤدي «الواوية» نشيد الوحدة العربية «بلاد العرب أوطاني» في محطة القطار حيث تخزّن بضاعتها. ترفع صوتها : «فهبوا يا بني قومي إلى العلياء بالعلم وغنوا يا بني أمّي بلاد العرب أوطاني...»، وهو توصيف مكثف للحكاية العربية العنترية.
مجتمع قائم على الخطابات وحالم بالرعونة الأدبية. هي والدة قدس ودمشق وبغداد التي ترقص بالمنديل الأبيض وتكفن به أولادها لاحقاً. فالحرب التي تستفيد من خيراتها تسلبها أبناءها واحداً تلو الآخر. لا تميّز الحرب أصدقاءها الصغار بل تسحق كالقطار كل من حولها.
هي المستفيدة من مصائب القوم التي لطالما ردّدت «وقتو هلأ توقف الحرب وقتو هلأ يوقع السلم بهالحشرة! بعدما اشتريت كل شي في بضاعة... !».
تؤمن للجنود الساهرين أدوات المائدة من موقعها القريب من الجبهة التي تواجه صعوبة في تجنيد المحاربين لاحقاً. تغذي أبطال الحرب حتى تشتهي أولادها.

كيف يعتاش التجار وقت السلم؟ سؤال تطرحه «الواوية» التي يخيفها السلم وتشعرها الحرب بالأمان. لم تكن «الواوية» صورة مصغرة أو متواضعة عن أثرياء الحرب الذين يطلقون على أبنائهم الذكور أسماء تتغنى بالعروبة بل مجرّد امرأة تريد أن تستغل الحرب وتبيع بضاعتها التي لم تكن أسلحة.
أراد بريشت إلقاء الضوء على الفئة العاملة أو «البروليتاريا» وأثر الحرب عليها بينما يخيّل للمرء للوهلة الأولى أن «الواوية» التاجرة هي التي ترعى صفقات وقود المعارك وذخيرتها لكنها «الأم الشجاعة» التي تخرج ليلاً.
يفاجئها ابنها : «وقع السلم من ثلاثة أسابيع أمي. انتهت الحرب لكن أعدك وحياتك أن أمورنا ستتصلح من جديد».
تجيبه بأسى : «السلم كسر ظهري. سيغادر الجميع الآن ويتركونني وحدي مع مصيبتي. وهل حسابات الهزائم والإنتصارات لدى أصحاب السلطة تتوافق مع حسابات من هم في الأسفل؟».
وهنا تبدو وكأن «الواوية» لا تختصر فقط المرأة العاملة والشجاعة بل المتهورة حين تطمع بمكسب أكبر.


من خيرات الحرب
دُمى متحركة ودماء والأمل الكفيف

الواوية، هي ابنة آوى. حيوان ليلي كثير الترحال. وهي هكذا الحياة وقت الحرب، يعيش فيها «الشجاع» أو «الشجاعة» حياة سفاري. لكن الحرب غير وفية حتى لتجارها المتورطين وغير المتورطين. تناسب الحرب واستمرارها الواوية لكنها ترفض أن يحمل أولادها السلاح.
تشبّه الأمر وكأن «صياد يدعو دودة الصيد إلى رحلة صيد». تردّد «الواوية» مجدداً أغنية من تراث، «بنت الشلبية».
«دمشق» أباه فلسطيني يعيش في الشام، و»قدس» أباه لبناني يحلم بالذهاب إلى فلسطين و»بغداد» أباه سوري يعيش في العراق.
هي كالجامعة العربية جمعت المجد من أطرافه. يتداخل نص المسرحية (إعداد وترجمة ايلي اضباشي) مع الموسيقى وارتجالات غنائية لخالد العبدالله الإبن.

أما عبد قبيسي وعلي الحوت (قدس وبغداد) فيتواصلان عبر الموسيقى، فيما يجسّد هادي دعيبس الشخصيات الآخرى بواسطة الدمى. تقف نضال الأشقر على المسرح ممثلة منفردة دون أن تكون منفردة، هل هو حضور «الواوية» أم هامة كبيرة ومحترفة على مسرحها، مسرح «المدينة»؟ تتحاور وزبائنها على الجبهات بأسلوب سوقي، فلقبها «الواوية» التي بلغت بشجاعتها عزلتها النهائية.
تقول أن ابنها «بغداد» الموجود على الجبهة الجائعة «حربوق» لكنه يقتل. فالصفات الإنسانية تتقزم أمام هول الحرب وبربريتها. وتقول بأن ابنها الكفيف «دمشق» - الذي تبحث له عن عروس - يخاف الحرب. هو أملها الكفيف الذي يجسد طموحها الأعمى.
تعترف بخوف ابنها ويغيب عنها خوف الآخر. تنأى بنفسها - كما يحلو لها-  عن ويلات الحرب حتى تصيبها.
لمَ منح اسم «دمشق» لابن كفيف تبحث له والدته عن عروس؟ هل والدة دمشق أو الوصية عليه «واوية»، تستغل الحرب والخراب؟ سكة القطار التي سيّجت بها حياتها تسقط لاحقاً قطعة قطعة مع نهاية الابناء واستمرار الحرب بمشهد بليغ وصارخ.


إنجاب الأطفال... شجاعة دون أمل
«الناس من زمان عم يبيعوا ولادن زغار»

«الناس أمثالي الذين عاشوا الحرب والسلم هم الأكثر حاجة إلى الشجاعة. ومن يريد النزول إلى حقله ليفلح أرضه تحت أنظار العدو هذه أيضاً تتطلب شجاعة. ومن ينجب أطفالاً هذه أيضاً تتطلب شجاعة. لمَ؟ لأننا نعيش دون أمل.
ينجبون الأطفال دون أن يكونوا عندهم أمل. ورغم ذلك يعمدون إلى تصفية أنفسهم الفقير يصفي الأفقر منه حتى يخجلون من النظر في عيون بعضهم. وهذه أيضاً تريد شجاعة. وبمجرد أنهم خاضعون إلى حكام هذه تطلب شجاعة «فوق العادة».

لأن هؤلاء الحكام الذين يخلّدونهم يصفون أنفسهم». تضيف الواوية كاشفة الوجه الآخر للحرب : «مثلما يخاف لاعب الميسر التوقف عن اللعب هي الحرب التي تضطر إلى إكمال لعبتها لكي لا تحصي خسارتها».
وتختم المسرحية بعبارة رائعة ومرعبة «الناس من زمان عم يبيعوا ولادن زغار». اكتشفت مقولة أن الحرب «لا تحدد من هو صاحب الحق، وإنما تحدد من تبقّى» متأخرة. إنها مسرحية مدوّية، نصاً وأداء ورسالة.


نضال الأشقر
هذا ما أسعى إليه مع عودتي إلى المسرح

أن ألملم ذاتي كممثلة وأدواتي من جديد،
أن ألعب كالطفل وأن أجد مع زملائي الممثلين آفاق جديدة
أن أعمل مع مخرج شاب وصديق وأتعرف إلى عمله من الداخل وأخطو معه خطوة خطوة إلى بناء عمل جديد،
ثم أن أشطر عمري شطرين شطر منه يلعب على الخشبة، والشطر الآخر يشاهد الأول يلعب. الخشبة بهجة ما بعدها بهجة، وعشق ما بعده عشق وشغف كامل متكامل هذا ما أسعى إليه مع عودتي إلى المسرح...
لا أكثر.