جمعيات أهلية تولد من رحم الألم

جمعيات أهلية,المرض,التوحّد

غنى حليق - بيروت 01 نوفمبر 2014

المرض، المعاناة، والتجارب الحياتية المؤلمة، تكون في أغلب الأحيان دافعاً للعطاء ومحرّضاً على الإبداع وحمل الرسائل السامية والأهداف النبيلة. عندما يُصاب أحدنا بمصاب أليم ينتبه لمن هم في مثل حالته، فيحاول مساعدتهم أو التعاون معهم للخروج من الأزمة. أروى حلاوي، نعيمة يونس، منار عاصي وشفيقة وحسين غربية، هم أهل أصيب أولادهم بأمراض وإعاقات وعانوا معهم بسبب فقدان المجتمع لمؤسسات توجه وتدعم من هم في مثل حالتهم، فقرروا تأسيس جمعيات ومراكز لمساعدة غيرهم من الناس لتجنيبهم المعاناة والتجارب الأليمة التي مروا فيها، وكان لكل منهم قصة نجاح ولدت وأزهرت من شدّة الألم.

أروى حلاوي والجمعية اللبنانية للأوتيزم – التوحد

السيدة أروى حلاوي هي رئيسة الجمعية اللبنانية للأوتيزم- التوحد، ولولا مرض إبنها لما كانت في موقعها هذا اليوم. تقول: «أعطاني إبني عباس أكثر مما أعطيته، غيّر نظرتي إلى المجتمع والحياة، وعلّمني الصبر والمثابرة، ودفعني لتأسيس هذه الجمعية والسير بها نحو الأمام. لقد كان في عمر الأشهر عندما بدأت أشعر بأنه مختلف عن سائر الأولاد، لا ينظر إلي ولا يُعيرني أي إنتباه، لا (يكاغي) ولا يتجاوب مع أي شيء، وإذا وضعته في مكان يبقى جالساً دون تفاعل مع ما حوله. عندما بلغ السنتين لم يتكلم كغيره من الأولاد، وهذا ما أقلقني وأتعبني. عرضته على طبيب أطفال فطمأنني بالقول إذا لم يحكِ اليوم سيحكي في المستقبل القريب. شعرت ببعض الإطمئنان، وحاولت إنكار شعوري بأن إبني مختلف أو يعاني إعاقة معينة، وكنت أرفض إستشارة طبيب آخر حتى لا أواجه واقعي المؤلم».

 هذا الوضع أدخل حلاوي في حالة إكتئاب ونكران للواقع فترة من الزمن، ولم تستطع الخروج منها رغم تلقيها نصيحة من مديرة الحضانة التي وضعت فيها ابنها بناءً على إستشارة طبيبة نفسية. وتقول: «رغم مواجهتها لي بالحقيقة لم أتقبلها، ومررت بمراحل صعبة جداً. ولمّا سجلت إبني في مدرسة عادية طلبت مديرة المدرسة مني إستشارة طبيب أعصاب لأنه لم يكن يتجاوب مع محيطه». في هذه الفترة لم يعد أمام حلاوي إلا المواجهة، فعرضت إبنها على عدة أطباء وشخّص أحدهم حالته بأنه يعاني من فرط الحركة الزائدة، ونصحها بمتابعة وضعه مع اختصاصي نطق ومعالج نفسي. وتضيف :«كنت أذهب معه يومياً إلى المدرسة وأتابع كل ما يجري، وفي هذه الفترة بدأت أشعر بالثورة، لماذا أنا، لماذا إبني بالذات؟ وقررت مواجهة المشكلة». لقد شُخّص مرض عباس خطأ بسبب عدم وجود فريق طبي متعدد الإختصاصات ومتابع بشكل خاص لحالته، ولهذا بدأت حلاوي البحث شخصياً عن مدرسة خاصة له واختصاصيين يفهمون حالته، كما بدأت تجري أبحاثها لمعرفة حالة إبنها لأن مرض التوحد لم يكن شائعاً لدى مختلف أطباء الأطفال، وهو كما تقول مرض أكتشف حديثاُ، في منتصف القرن العشرين. سجلت حلاوي إبنها في مدرسة لذوي الاحتياجات الخاصة، وهناك بدأت تلتقي سيدات لديهن المشكلة نفسها والوجع ونفسه، وتتبادل معهن الآراء والافكار والخبرات في طريقة التعامل مع أولادهن. تقول حلاوي: «هنا بدأت أشعر بالإرتياح، وعرفت أنني لست وحدي. شعرت بالقوة وتقبلت حالة إبني وإنعكس ذلك إيجاباً عليّ وعلى العائلة بأكملها. وفي تلك الفترة قررت تأسيس الجمعية اللبنانية للتوحد ووضعت لها ثلاثة أهداف. الهدف الأول دعم الأهل معنوياً من أجل تقبل حالة إبنهم معنوياً ونفسياً وتدريبهم على التعامل معه. الهدف الثاني مساعدة الأولاد الذين يعانون من التوحد في لبنان. والهدف الثالث توعية المجتمع على مرض التوحد». أسست حلاوي الجمعية مع مجموعة من السيدات اللواتي يعانين مثلها في العام 1999، وحاولن إيجاد مركز لأحتضان الأولاد المتوحدين وتجنيب أهلهم الصعوبات التي مررن بها، ولهذا جهزن المركز بكل المعدات اللازمة، مع وجود فريق عمل متكامل ولديه الخبرة الكافية للتعامل مع حالات التوحد بمختلف أنواعها ودرجاتها، بالإضافة إلى تنسيقهن مع أطباء الأطفال من أجل التشخيص المبكر. عملن على دمج بعض الحالات في مدارس عادية. وهن اليوم بصدد إفتتاح مدرسة خاصة بالتوحد يتم فيها إستقبال الأولاد من عمر صغير ولعمر الرشد لأن المدارس العادية لم تعد تستوعب عددهم الكبير والمتزايد.

نعيمة يونس إحدى مؤسسات الجمعية اللبنانية لتثلث الصبغية 21

السيدة نعيمة يونس هي من مؤسسات الجمعية اللبنانية لتثلث الصبغية، شاركت مع غيرها من النساء في تأسيسها بسبب إصابة إبنتها بمرض تثلث الصبغية 21 والذي كان شائعاً في الماضي تحت إسم أطفال (المنغول). ترفض يونس هذه التسمية وتقول أنها ألغيت ولم يعد معترفاً بها، كما تتحدث بحرقة كلما تذكرت كيف تعامل معها المجتمع منذ ولدت إبنتها ماريا والأسباب التي دفعتها لتأسيس هذه الجمعية.

وللسيدة يونس قصة مؤلمة مع المجتمع ونظرته إلى إبنتها، فهي عندما وضعتها في المستشفى منعت من رؤيتها بحجة أنها تعبة وما زالت تعاني من آثار الولادة، في الوقت الذي عرض طبيب الولادة على زوجها فكرة التخلص من الطفلة عبر حقنها بإبرة لانها غير طبيعية، إلا أن الوالد رفض وطلب طبيب أطفال من خارج المستشفى، وإطمأن منه إلى حالتها الصحية التي كانت جيدة خلافاً لما ذكره طبيب الولادة.

تقول يونس: «عندما رأيت إبنتي لم ألحظ أنها غير طبيعية، وظننت أن شكلها هكذا لأنها حديثة الولادة، وعندما راجعت طبيب الاطفال بعد 15 يوماً سألني ما إذا كنت أحببتها، أو تعودت عليها، وعندها أخبرني عن حالتها. صدمت وتألمت وإنزعجت وخصوصاً أنني كنت أعمل في وزارة الشؤون وأعرف كم كان يعاني أهل الأولاد المصابين بهذا المرض من أجل متابعة حالة أولادهم أو الحصول على مساعدة من أجلهم».

لم تستسلم يونس لوضع إبنتها ومنذ معرفتها بحالتها بدأت تجري أبحاثها عن مرضها، كما لقيت رعاية كبيرة من أهلها وأخوتها في لبنان وخارجه، وبدأت العمل على إبنتها من أجل تحسين وضعها، ولكن في عمر السنتين ونصف تلقت الصدمة الثانية من المجتمع، حين وضعت إبنتها في دار حضانة، إذ بدل أن ترفض صاحبة الحضانة إستقبالها أجرت إجتماعاً لأهالي الأولاد وحاولت أخذ موافقتهم على إنضمام ماريا إلى جانب أولادهم. يومها شعرت بالألم والإهانة وبكت بحرقة وأخذ إبنتها وسافرت إلى أميركا وهناك وجدت الرعاية والإهتمام، وشعرت براحة نفسية كبيرة. ولكن بعد مضي 8 سنوات عادت إلى لبنان، ومع عودتها عادت المعاناة، إذ لا يوجد مراكز أو جمعيات تحتضن هؤلاء الأولاد أو تساعد أهلهم وترشدهم. وحتى المدارس الخاصة بهم لم تكن بالمستوى المطلوب، مما دفع يونس لتعليم إبنتها في المنزل على أيدي مدرسين خصوصيين.

تقول: «كل هذه الاسباب دفعتني مع عدة نساء لتأسيس جمعية خاصة تعمل على توعية الأهل والمجتمع على هذا المرض».

منار عاصي رئيسة جمعية داء الصرع في لبنان

عملت السيدة منار عاصي على تأسيس الجمعية اللبنانية لداء الصرع، على أثر معاناة إبنتها من المرض، فهي كانت مصابة بحالة صرع شديدة، وبحاجة كبيرة لمتابعة وأدوية، إضافة إلى أن أغلب المدارس رفضت إستقبالها، ولم يكن المجتمع يتقبلها كشخص طبيعي، علماً أن المصابين بداء الصرع أشخاص طبيعيون لكن المجتمع يصنفهم كمعوقين.

تقول عاصي إن «أهم الأسباب التي دفعتها لتأسيس جمعية هي الأخطاء الطبية التي مرت بها إبنتها من قبل عدة أطباء، وعدم توافر توعية لأهالي المصابين بداء الصرع في لبنان. اجتمعت بعدة نساء من المجتمع وطرحت عليهم مشكلتي فشجعوني على إنشاء هذه الجمعية. وقد أسستها في العام 2001 وهي اليوم تقدم كل الدعم المادي والمعنوي لمرضى داء الصرع وأهلهم، فهي تقدم المساعدة من خلال تقديم الدواء المجاني ونصف المجاني للمرضى  وبحسب الوضع الإجتماعي للأهل».

أهم الأهداف التي أنشئ من أجلها المركز هي: إنشاء مركز طبي لمراقبة وعلاج حاملي هذا الداء تحت إشراف اختصاصيين، إنشاء مركز تعليمي مهني، وإقامة ندوات توعية. وترى عاصي أنها بتأسيسها لهذه الجمعية تعود بالمنفعة والخير على جميع مرضى الصرع، ومن ضمنهم إبنتها التي تعمل في مشغل الجمعية الذي يعود ريعه لدعم مرضى داء الصرع.

الدكتور حسين غربية والدكتورة شفيقة غربية الجمعية العلمية للاوتيزم والتحليل السلوكي:

للدكتور حسين غربية وزوجته الدكتورة شفيقة منصور غربية أيضاً قصة مع التوحد، فهما عاشا فترة في لندن ورزقا خلالها بابنهما علي، وهناك لاحظا أن سلوك ابنهما ليس كغيره من الاولاد، فعرضاه على الأطباء وتم تشخيص حالته في سن السنة ونصف السنة. يقول الدكتور غربية: «أشكر الله أنه تم تشخيص حالة ابني في وقت مبكر، وبدأنا له العلاج في هذا السن، لأنه كلما بدأ العلاج في وقت مبكر كانت فرص التحسن وربما الشفاء أكبر، وبحسب حالة كل طفل».

إصابة علي بمرض التوحد غيرت نظرة والديه إلى الأمور، وجعلتهما يغيران مسار حياتهما. فالأم التي كانت لا تزال تتابع دراستها في لندن، غيرت مجال دراستها وتخصصت بالعلاج النفسي والسلوكي لمرضى التوحد، والأب الذي يحمل دكتوراة في القانون، أخضع نفسه لعدة دورات تدريبية تعلّم من خلالها كيفية التعامل مع مريض التوحد وأساليب تعليمه وتنمية قدراته الادراكية والحسية. يرى غربية أن حالة إبنه علي أنشأت بينه وبين زوجته علاقة قوية ومتينة فيها كل التعاون والإهتمام، فهم من البداية كانا يحبان الاولاد ويهتمان لشؤونهم ورعايتهم فكيف إذا كان لديهم حالة خاصة. «أصبح لدينا مهمة أكبر ورسالة معينة مختلفة عن إهتماماتنا وتوجهاتنا السابقة».

تقول د. غربية: «حين أصيب ابني بالتوحد قررت دراسة اختصاص التعليم والتحليل السلوكي واللغوي، وبالفعل خضعت لدورات مكثفة، واستطعت أن أحقق نتيجة فعلية، حيث تحسن ابني بشكل ملحوظ. عملت كثيراً ولفترة طويلة في بريطانياً وشهدت كماً من الحالات رافقها تفاعل ملموس من قبل الدولة والمجتمع، لكن حين عدت إلى لبنان فوجئت بالواقع لكثرة الجمعيات، ولكن فعلياً لا يوجد عمل حقيقي ضمنها ولا نتائج مرضية، ومن جهتي أجزم أن كل إنسان قادر على التعلم، ولكن السر في الاسلوب والايمان بأننا قادرون على مساعدة من يحتاج إلى المساعدة، ولذلك فكرت وزوجي في تأسيس جمعية تعنى بشكل جدي بمرضى التوحد».

وتضيف :«في العام 2004 أسسنا الجمعية العلمية للاوتيزم والتحليل السلوكي، وهي جمعية خيرية لا تتوخى الربح، ومن أهم أهدافها تقديم الخدمات للمصابين بالتوحد وتغيير الطريقة السائدة في تعليم وتدريب الاولاد المتوحدين بحيث تتاح لهم فرصة حقيقية لدمجهم مع الاولاد العاديين في المدرسة والمجتمع من ضمن برنامج تعليمي يشمل كل من له علاقة بالطفل. إن الهدف الاساسي للجمعية هو مساعدة الولد المتوحد على اظهار قدرته الكاملة. لذلك إرتأت الجمعية العمل على تحقيق هذا الهدف عن طريق استعمال أسلوب ال ABA في مركزها والتحليل السلوكي ABA/AVB، وهو برنامج مخصص لتعليم أولاد التوحد بغض النظر عن مكان التعليم (البيت او المدرسة) أثبت فعاليته علميًا وعالمياً وهو مصمم لكي يلبي حاجة الطفل وتعليمه المهارات التي يحتاجها عن طريق استعمال التحفيز الايجابي والمكافأة والمساعدة، وتخفيف المساعدة والمكافاة لكي يستطيع الولد المتوحد الاعتماد على نفسه بشكل تلقائي.